أصول الخطاب السياسي الإسلامي
صفحة 1 من اصل 1
أصول الخطاب السياسي الإسلامي
أصول الخطاب السياسي الإسلامي
============
الفصل الأول: أصول الخطاب السياسي في القرآن:
الأصل الأول: توحيد الله.
حقيقة الوحدانيَّة إفراد الله وحده لا شريك له فيما يجب له باعتقاد وحدانيته في: الخالقية والربوبية والإلوهية وصفات الكمال وأسماء الجلال والملك والحكم والطاعة والرهبة والخشية والخوف والأمر والولاية على خلقه والعبادة.
فالرب هو السيد الذي له الأمر والسيادة، والملك هو الذي له الملك والحكم والطاعة والإله هو الذي له الدعاء والعبادة.
وقد أكثر القرآن من تقرير وحدانية الله في الخلق والملك والحكم والطاعة والسيادة لبيان بطلان منازعة الملوم والطغاة له في شيء من خلقه، لشيوع هذا الشرك في المجتمعات الإنسانية كافة.
لقد جاء الإسلام ليبطل ربوبية الملوك ورجال الدين ويقيم للناس الحنيفة السمحة, توحيد الله في الخلق, وفي الملك, وفي الربوبية والسيادة والحكم والطاعة والعبادة.
والشرك نقيض التَّوحيد ، ومن صوره: شرك الحاكمية – شرك الطاعة – شرك التشريع – شرك العبادة – شرك الملك.
الأصل الثاني: تكريم الإنسانيَّة وتوحيدها واستخلافها في الأرض:
فبعد الدّعوة لتوحيد الله، ثنى بالإنسان وبينّ حقيقة وجوده والغاية منها ومكانته في الوجود ومهمّته وعلاقته بالله وبالأرض وبمجتمعه وبأخيه الإنسان.
قال (صلى الله عليه وسلم): “إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها”.
وكل هذه الحقائق تُؤكّد:
استخلاف الله للإنسان في الأرض.
وتؤكد تكريم الله له.
وأن الإنسانية كلها من أصل واحد.
وأن الغاية من خلقهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ويعمروا الأرض.
الأصل الثالث: تحرير الإنسانيَّة وتجريد العبوديَّة:
قاعدة شرعية: “الأصل في الإنسان الحريَّة“.
فكل الأحكام الشرعية تسقط في حال الرق والعبودية والاسترقاق.
وحق الحريَّة السياسية مكفول في شريعة الإسلام.
إنَّ معنى العبوديَّة التذلل والخضوع، ومعنى العبادة الطاعة مع الخضوع.
وقد قال ابن عباس “الهوى إله معبود من دون الله”.
فالحريَّة هنا تعني التَّوحيد الخالص لله.
بل إنَّ مفهوم التَّوحيد الذي جاء به الإسلام اتَّسع ليشمل حريَّة الإنسان حتى في الشعور النفسي، كالخوف من غير الله والخشية والرَّهبة، فشرط لتحقيق الإيمان به عدم الخوف من غيره، ومن كل ما سوى الله.
الأصل الرابع: دعوة الخلق إلى العدل والحق:
إنَّ الغاية من بعث رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) رحمة للعالمين ليقوم الناس بالعدل والقسط، بل لقد جعل الغاية من خلق الخلق هي إقامة وتحقيق العدل.
ومن صور الظلم والتظالم: الظلم الاقتصادي, الاجتماعي (كظلم اليتيم والمرأة والضعيف والفقير), والطبقي.
لقد كانت الدعوة إلى إقامة القسط وتحقيق العدل والمساواة والرحمة بالخلق قضية رئيسية في الخطاب القرآني والنبوي في العهد المكي.
فلم تكن الدعوة قاصرة على التَّوحيد فقط، بل كانت دعوة لتحرير الإنسان من ظلم أخيه الإنسان، ودعوة إلى الرحمة بالخلق، وتحقيق العدل والقسط.
ذلك التَّوحيد يتمثل بمفهومه الشامل: الديني والسياسي والتشريعي.
وقد جاء الإسلام كذلك بالتَّوحيد ليقره عقائديًّا وسياسيًّا وتشريعيًّا واجتماعيًّا.
الفصل الثاني: أصول الخطاب السياسي النبوي:
تضمَّن الخطاب النبوي أصولاً لا تقلّ أهمّية في بيان طبيعة النظام السياسي الإسلامي، وهي بيان لأصول الخطاب القرآني، وتفصيل لها بشكل عملي تطبيقي، ومن تلك الأصول:
الأصل الأول: ضرورة الدولة ووجوب الجماعة.
التلازم بين الدين والسلطة والسياسة:
دلالة لفظ الدين على ضرورة الدولة والسلطة هي دلالة لفظيَّة لغويَّة قبل أنْ تكون ضرورة شرعيَّة وعقليَّة، فالدين في لغة العرب له معان عدة, حيث يأتي بمعنى سلطة، أو طاعة، أو حساب وجزاء، وقد جاء في لسان العرب في معنى الدين: (الديّان اسم من أسماء الله معناه الحكم والقاضي من دان الناس أي قهرهم على الطاعة), ويدور معنى كلمة الدين في استعمال القرآن حول الطاعة والسلطة والملك والحكم والقضاء والساسة والجزاء، وكلها تؤكد طبيعة هذا الدين وهو الإسلام والاستسلام لطاعة الله وحكمه وقضاءه، لا لغيره. وأنه لا يمكن فصل الدين لغة وشرعًا عن السلطة والحكم والسياسة والقضاء.
وأمَّا الدين بمعناه الشرعي العام: فإنه يشمل ذلك كله وهو الإيمان والإسلام والإحسان. أي كل ما جاء به (صلى الله عليه وسلم) من عند الله من أخبار وأحكام وتشريعات عقائدية وعملية.
وقد عرض على النبي (صلى الله عليه وسلم) مساومات كثيرة, منها مساومة بني عامر بن صعصعة ومساومة مسيلمة الحنيفي كان يريدا الإتباع بشرط أن يكونا لهما الأمر من بعده، فرفض النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك – مع أن المسلمين حينها كانوا في محنة والأجدر أن يقبلوا ذلك – لكن هذا يتعارض مع الخطاب القرآني الإيماني، والتَّوحيد الخالص لله جل وعلا.
البيعة الإيمانية (الأولى).
والبيعة السياسية وإقامة الدولة (الثانية).
وبعد إقامة الدولة، ظهرت الدور والأحكام الشرعيَّة لها:
دار حرب, مكة، تحارب النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل الفتح، ومع وجود بيت الله الحرام فيها لم يغير منها شيء.
دار معاهدة وسلم, أرض الحبشة، مع كون الحبشة دار شرك.
دار المدينة, دار الإسلام.
أركان الدولة في الخطاب السياسي الإسلامي:
وهي: الأرض, والأمة, والسلطة, والنظام الذي تحكم به السلطة الأمة وتسوس شئونها العامة وفق أحكامه.
وهناك من الأدلَّة القرآنيَّة وفي سيرته (صلى الله عليه وسلم)، يؤكد توفر أركان الدولة كما يعرفها الفقه الدستوري المعاصر في الدولة الإسلاميَّة التي أقامها النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة، ولم يتوفاه الله حتى صارت جزيرة العرب كلها تحت سيادتها وسلطتها، وهي أوَّل مرة في التاريخ يجتمع العرب في الجزيرة تحت راية واحدة، ودين واحد، ودولة واحدة، ولم يمض بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم) سوى عشر سنين حتى كانت الدولة الإسلاميَّة تمتد من أقصى حدود فارس شرقًا، إلى أقصى حدود ليبيا غربًا.
الرسائل النبوية والأحكام السياسية:
ومما يؤكد هذه الحقيقة رسائل النبي (صلى الله عليه وسلم) التي تواترت عنه تواترًا قطعيًّا والتي وجهها لرؤساء العرب، يدعوهم فيها للدخول في الأمة الوليدة والطاعة للسلطة الجديدة في المدينة النبوية، وما تضمنته من أحكام سياسية توجب الدخول تحت سلطان الدولة النبوية، والسمع والطاعة لها.
وتؤكد الرسائل النبوية الكثيرة حقيقة وطبيعة دعوته وأنه دين ودولة وطاعة وسلطة.
وفي هذه الكتب والرسائل تقرير حقوق المواطنة وحقوق الملكية وحريَّة الديانة وحقوق الأساقفة والرهبان وإيجاب الزكاة على المسلمين والجزية على غير المسلمين، والمنع من الحشر– وهو ما كان يفعله الملوك بالناس من حشرهم وجمعهم للحروب وهو التجنيد الإجباري- والعشر – وهو ما كان يأخذه الملوك من أهل التجارة حين يمرون في أرضهم فيأخذون عشر أموالهم – فجاء الإسلام ليبطلهما.
الأصل الثاني: ضرورة قيام السلطة ووجوب الطاعة.
وكما لا يتصور قيام الإسلام دون دولة تقوم فيها أحكامه، فكذلك لا يتصور قيام الدولة دون سلطة وطاعة، فقد كان عقد البيعة بين النبي (صلى الله عليه وسلم) والأنصار في العقبة وثيقة سياسية تشريعية احتوت على أهم أصول الخطاب السياسي النبوي، ومن ذلك:
السمع والطاعة.
لأن كل من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف الإمارة من قبل، وكانت تأنف أن يعطى بعضها بعضاً طاعة الإمارة، فلما دانت لرسول الله بالطاعة لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله، فأمروا أن يطيعوا أولى الأمر وأمروا أن يطيعوا أولي الأمر الذين أمّرهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا طاعة مطلقة بل طاعة مستثناه فيما لهم وعليهم.
عدم منازعة الأمر أهله.
والمقصود بالأمر هنا الإمارة والإمامة والخلافة.
كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يخشى أن يدعي الأنصار أحقيتهم بالأمر بعد وفاته، بدعوى أنهم أهل الدار، وأهل الشوكة والنصرة، فأراد النص في عقد البيعة وهو في مكة – في أعظم اجتماع سري تم عقده تحت جنح الظلام – على مبدأ أن الأمر شورى، فلا منازعة فيه، ولا مغالبة، ولا إكراه عليه، بل شورى واختيار ورضا.
حق الأمة في الرقابة على السلطة.
وهو أصل من أصول الخطاب السياسي النبوي، فقد تضمن عقد البيعة (وأن نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)، فالأمة هي الرقيب والحسيب على السلطة، فالطاعة للسلطة ليست مطلقة، وليست لذات السلطة، بل الغاية من إقامة السلطة تحقيق العدل والقسط.
بل جعل الشارع التصدي للإمام الجائر أفضل أنواع الجهاد في سبيل الله، فقال “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”.
الأصل الثالث: تقرير مبدأ المواطنة وتحديد الحقوق الدستورية:
كانت بيعة العقبة وثيقة سياسية، وعقدًا اجتماعيًا، حدد أصول النظام السياسي العامة للدولة الجديدة، دون التعرض لتفصيل الحقوق والواجبات، وتعتبر صحيفة المدينة تجليًا لمبدأ المواطنة لكل من يعيش على الأرض الجديدة.
وبذلك نجح الإسلام في تأسيس أول مجتمع إنساني تعددي، وأول دولة دستورية قانونية، تم في دستورها تحديد حدود الإقليم والسلطة والأمة، وتم فيه تنظيم العلاقة بين جميع مكونات المجتمع، وترسيخ مبدأ الحريَّة الدينية، وتقرير مبدأ المواطنة، وما تم في هذا الدستور أيضاً تحديد ما للجميع من حقوق وما عليهم من واجبات.
الأصل الرابع: ضرورة الشورى ووجوب الخلافة:
أكد الإسلام ضرورة الشورى ووجوب الخلافة كنظام يعبر عن طبيعة الخطاب السياسي الإسلامي النابع من الخطاب القرآني على أصول عقائدية، ونظرته لطريقة اختيار السلطة في الدولة، وكيفية تشكيلها بما يتفق مع أصوله ومبادئه.
ذلك نظام يتجلي فيه معانيها، وتتحقق بها مراميها فلا يمكن أن يقر الخطاب القرآني النظام الملكي، لتعارضه مع كل أصوله العقائدية.
ولأن الملكية أو التوارث يقتضيا القهر والجبر والمغالبة والمنازعة، وهو ما يعارض أصول الخطاب القرآني والنبوي، فجاء الخطاب السياسي الإسلامي بنظام الخلافة والإمامة والشورى.
ولما كانت الخلافة كنظام سياسي يهدف إلى إقامة الحق والحكم بالعدل، جاءت المسميات والألفاظ نابعة من هذا الهدف ليس فيها معنى الملك أو الاستبداد أو الاستحقاق أو القهر أو الجبروت، كانت الخلافة والخليفة: الذي يخلف من سبقه، الإمام والإمامة: وهو الذي يتقدم للقيادة كإمامة الإمام للمصلين، الإمارة والأمير: الذي هو ذو الأمر والشأن، وفيه معنى المشاورة.
الأصل الخامس: حفظ الموارد المالية وقسمتها بالتسوية:
فموضوع المال والثروة في الدولة والمجتمع هو أحد القضايا الثلاث الرئيسية وهي (الدين والسلطة والثروة) التي حاولت كل الفلسفات الوضعية والنظم السياسية مواجهتها ووضع الحلول لها، التي تعالج إشكالاتها لكونها أحد أسباب الصراع الرئيسية بين البشر.
“كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” وهذا هو المبدأ في الخطاب السياسي القرآني والنبوي ليتم تداول الأموال بين جميع أفراد المجتمع وليمنع من سيطرة رجال المال على مقدرات الأمة الاقتصادية.
ومهمة السلطة هو العمل على تحقيق هذه الغاية وفق قواعد شرعية وأصول مرعية. تتمثل في:
القاعدة الأولى: حرمة أموال الأمة على الأئمة إلا قدر حاجتهم.
القاعدة الثانية: مسئولية السلطة عن رعاية الأفراد في الدولة.
القاعدة الثالثة: مسئولية السلطة عن موظفيها ومحاسبتهم.
القاعدة الرابعة: حرمة الأرض وإباحة إحيائها وإصلاحها واستثمارها.
وتدور الأحكام كلها حول أربعة أصول هي:
1.ضرورة حفظ الأموال.
2.تقسيم الأموال وتوزيعها بالعدل.
3.حرمة الاعتداء على الأموال.
4.ضرورة استثمار الأموال وتنميتها.
الأصل السادس: ضرورة الجهاد لنصر الحق وتحرير الخلق:
غاية الجهاد:
المقصود الأول: رد العدوان عن النفس والأرض والعدوان.
المقصود الثاني: القتال لنصر المستضعفين في الأرض.
المقصود الثالث: القتال حتى يكون الدين كله لله.
فالجهاد مع ما فيه من مشقة على النفس، وما فيه من جهد وبذل، مما تكرهه النفوس بطبيعتها البشرية، إلا أنه خير كله لما فيه من المصالح الكلية، والأسباب الضرورية لحياة المجتمعات الإنسانية، التي لا تخلو في أي عصر من أئمة للطغيان يسومون الشعوب سوء العذاب ويفتنون المؤمنين.
الفصل الثالث: أصول الخطاب السياسي الراشدي:
إن الخطاب الراشدي وسنن الخلفاء الراشدين في باب الإمامة وسياسة الأمة هي النموذج المحض للخطاب السياسي الإسلامي.
لا خلاف بين الأئمة وسلف الأمة، أن خلافة النبوة ثلاثون سنة، وأن الأربعة الخلفاء الذين بايعهم الصحابة في المدينة المنورة أئمة هدى يجب الاقتداء بهم فيما سنوه من سنن توافقوا ليها ولم يختلفوا فيها، فقد كان الخلفاء الأربعة المهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، من جيل كبار الصحابة، ومدة خلافتهم ثلاثون سنة.
وفي الحديث ( ثم تكون خلافة على نهج النبوة ثم تكون ملكًا عضوضًا ثم جبريًا ثم تعود خلافة على نهج النبوة).
ثم صارت الخلافة بعد الخلفاء الأربعة في جيل الصغار من الصحابة وهم:
1.الحسن بن علي ومدة خلافته ستة أشهر ( وقد أعد أهل التحقيق اكتمال خلافة النبوة ثلاثون سنة).
2.معاوية بن أبي سفيان بايعه الحسن سنة 41 هـ واستمرت عشرون عامًا، وبايعته الأمة لبيعة الحسن وسمي عام الجماعة، وقد اتصفت خلافته بتشبهه بعمر ابن الخطاب في شأنه كله ثم أراد تولية ابنه يزيد فاضطرب أمر الأمة وكان زمانه زمن فتنة ولم يتم له الأمر وتوفي بعد 4 سنوات ولم تنعقد له خلافة على الصحيح.
3.ثم بويع عبد الله بن الزبير عن رضا وشورى، واستمرت خلافته نحو تسع سنين إلى سنة 73 هـ وكان يتشبه بالخلفاء الراشدين، حتى عد الخليفة الراشد الخامس.
وبعد سبعين عامًا تجلى بشكل واضح خطاب سياسي مؤول لم تعده الأمة من قبل على يد عبد الملك بن مروان وهو أخذ الأمر بالسيف والقوة لا بالشورى والرضا.
الخطاب الراشدي وتجلياته السياسية:
لقد تجلت أصول الخطاب الراشدي في أحداث رئيسية من تاريخ الإسلام، مما أدى إلى رسوخها نظريًا بحيث لا يمكن نفيها أو تأويلها، وإنما غاية ما هناك تسويغ غيرها قياسًا عليها، كما حدث في الخطاب المؤول، وقد تمثل ذلك في الأحداث الآتية:
لقد كانت مباردة الصحابة لسقيفة لحسم موضوع الإمامة واختيار الخليفة، وما جرى فيها من الشورى والجدل ورفع الأصوات وترشيح بعض الأسماء فيها، ثم عقد البيعة بعد ذلك لأبي بكر الصديق، كل ذلك أدلة على مدى فهم الصحابة للخطاب السياسي الإسلامي وإدراكهم لأصوله وقواعده، إذ أن ما تم في السقيفة هو تطبيق لما جاء به النبي (صلى الله عليه وسلم) وتجديد لعقد البيعة التي تمت بين الأنصار والنبي (صلى الله عليه وسلم) في بيعة العقبة، واقتداء به وبهديه في هذا الباب، وعملًا بالمبدأ القرآني (وأمرهم شورى بينهم)، لقد كانت بيعة الصحابة لخليفة النبي (صلى الله عليه وسلم) تأكيدًا لمبدأ أن الإمامة والإمارة عقد بين طرفين، الأمة فيها الأصيل والإمام وكيل عنها في النيابة عنها في إقامة ما أوجب الله عليها القيام به، إذا الخطاب القرآني أصلًا هو للأمة.وتتمثل تلك الأصول في:
الأصل الأول: لا دين بلا دولة:
فلا قيام للإسلام بلا أمة واحدة، ودولة واحدة تقوم به وتنصره، وتحوطه وتحميه، وتذود عنه وتقيم أحكامه.
وقد أكد القرآن ضرورة الدولة في آيات كثيرة كغاية وهدف، وكذلك أكد ضرورة الدولة كوسيلة لغاية أسمى.
الأًصل الثاني: لا دولة ولا جماعة بلا إمامة وطاعة:
لا يقوم دين الإسلام ولا يستقيم إلا بقيام الدولة والإمامة، وأن تدين الناس وصلاحهم في أنفسهم لا يقتضي قيام الإسلام وأحكامه، كما كان حال النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في مكة، فقد كانوا خير أهل الأرض دينًا وإيمانًا، ولم يقم الإسلام ولم تظهر أحكامه إلا في المدينة، فثبت بذلك أن الإسلام في حقيقته دين ودولة.
الأصل الثالث: أنه لا إمامة بلا عقد البيعة:
فالبيعة عقد بين طرفين فالأمة فيه أصيل والإمام فيه الوكيل عنها.
فليست الإمامة والسلطة بالوراثة ولا بالقوة والمغالبة والمنازعة، ولا بالتفويض الإلهي، بل هي عقد واتفاق بين طرفين على شروط محددة، وهي السمع والطاعة من الأمة للإمام، مقابل قيام الإمام بالعمل وإدارة شئون وسياسة الدولة وسياسة أمور الأمة بالقسط والعدل على ما جاء في الكتاب والسنة والالتزام بهما، وعدم الخروج على أحكامهما والالتزام بالشورى ورأي الأمة.
الأصل الرابع: ولا عقد بلا رضا واختيار ولا مع إكراه وإجبار:
فإذا كانت الإمامة لا تتم إلا بعقد البيعة بين الأمة والإمام، وإذا كانت البيعة عقدًا من العقود، فإنه لا بد فيها من الرضا والاختيار من طرفي العقد؛ إذ لا يصح عقد من العقود إلا بالرضا دون إكراه أو إجبار، وإذا كان الرضا في عقود البيع والمعاملات ركنًا أو شرطًا من شروط صحته، فكيف بعقد الإمامة؟!
لقد أبطلت الشريعة جميع أنواع الإكراه وصوره, فإذا كانت جميع أنواع العقود تشترط الرضا من الطرفين لصحة العقود، وصحة المعاملات، بل وأجاز استثمار المرأة في عقد نكاحها، وجعل لها الحق في فسخ العقود إذا وقع دون رضاها وإذنها، فكيف يقع عقد البيعة الذي يتصرف الإمام بموجبه بشئون الأمة كلها مع الإكراه؟ وكيف لا يحل للأمة رده أو فسخه إذا وقع كذلك؟!
بل إن قهر الناس بالسيف، والتصرف في شئونهم كرهًا هو استعباد لهم يناقض حريتهم، وتوحيدهم، وهو أوضح صور الغصب الذي أبطلته الشريعة.
الأصل الخامس: ولا رضا واختيار بلا شورى واختبار:
فالأمة هي مصدر السلطة ابتداءً وانتهاءً، ولم يطرأ على مفهوم الشورى ما طرأ من خلال وجدل: في معنى الشورى؟ وهل هي واجبة أن لا؟ وهل هي ملزمة أم معلمة؟!
ليصل الفقه في عصور التأويل والتبديل إلى أن الشورى هي فقط مشاورة الإمام للأمة، وليس حق الأمة في اختيار الإمام!
فالشورى في الخطاب الراشدي تتضمن الأمرين:
الأول حق الأمة في اختيار الإمام.
حق الأمة في مشاركة الإمام الرأي بعد اختيارهم له.
إن حق الأمة في الشورى هو حق شرعي وطبيعي لكل فرد فيها، بغض النظر عن مدى صلاحه في نفسه من عدمه، لكونه مخاطبًا بالتكاليف الشرعية التي هي من باب الواجبات العامة.
الأصل السادس: ولا شورى بلا حريَّة:
فقد تجلت الحريَّة في أوضح صورها بما دار في السقيفة من جدال، فلم يصادر على أحد حقه في إبداء رأيه بكل حريَّة مهما تجاوز حدود أدب الجدال والمحاورة، ولم يكره أحد على اتخاذ موقف لا يراه ولا يرتضيه، بل كانت الشورى تجري في مناقشة هذه القضية الخطيرة بكل حريَّة تامة.
كما تتجلي الحريَّة السياسية أيضًا في حق الأمة في نقد السلطة وتقويمها وحريَّة إبداء الرأي وقول الحق.
فالله وحده هو الذي لا يسأل عما يفعل، أما من سواه فكلهم مسئول عما يفعل، والمسئولية تقتضي المحاسبة والمساءلة.
بل إن الحريَّة السياسية لا تقف عند حريَّة اختيار الإمام، وحريه نقده وتقويمه، بل تتجاوز ذلك إلى حريَّة طلب عزله وخلعه.
الأصل السابع: ولا شورى ولا حريَّة بلا تعددية سياسية:
وهذا الأصل شرط ضروري لتحقق الشورى، فلا يتصور أن يجتمع الناس ليتشاورا في أمر سبق تحديده وتعيينه، وإنما تتحقق الشورى والحريَّة إذا كان للناس خيار في ترشيح هذا أو ذاك ممن ترضينهم الأمة.وهذا تمامًا هو مبدأ التداول السلمي للسلطة وترسيخ لمبدأ التعددية وفتح للطريق أمام التنافس المشروع على السلطة.
الأصل الثامن: ولا تعددية بلا مشروعية ومرجعية:
فلا يتصور وجود تعددية وتداول سلمي للسلطة وحريَّة سياسية إلا في ظل مرجعية قانونية تنظم هذه العملية، وتحقق المشروعية التي تحتاجها السلطة لتكون أحكامها نافذة على الأمة.
إن في تحديد المرجعية وترسيخ مبدأ المشروعية القانونية صيانة للحقوق والحريات،وكبحًا لجماح السلطة عن أن تتجاوز صلاحياتها، فالطاعة لها مقيدة بقانون الشريعة.وبهذا يفقد الحاكم صلاحياته وسلطته إذا عارض حكم الله ورسوله وهو الدستور الأعلى في الدولة الإسلاميَّة.
وقد صار من مهمة السلطة في الدولة الإسلاميَّة إقامة الشعائر العبادية، وإقامة الشرائع القانونية التشريعية التي هي العدل والقسط، والمحافظة على القيم الأخلاقية، وعدم الخروج عن شئ من أصولها وقطعياتها وإلا فقدت السلطة مشروعيتها.
ومن هذا المنطلق أرسى الإسلام مبدأ المشروعية، وهو أن تكون تصرفات السلطة في حدود شريعة الدولة وقانونها الذي على أساس العمل به والتزامه عقدت الأمة البيعة للإمام، فإذا انحرف عن قطعياتها وجب على الأمة كلها القيام بمسئوليتها بالخروج عليه وخلعه ونصب إمام جديد عادل، مما يؤكد أن الأمة هي مصدر السلطة، وأنها هي الأصل والإمام وكيل عنها.
الأصل التاسع: المحافظة على الحريَّة الفردية والحقوق الإنسانية:
ومن ذلك:
حق الإنسان في الحياة، الحريَّة.
حريَّة التصرف والتنقل والعمل.
الحريَّة الاقتصادية والتجارية.
حريَّة الدين والاعتقاد والرأي.
حريَّة الانضمام للتجمعات السياسية والفكرية.
حق مقاومة تعدي السلطة وطغيانها.
حماية حقوق الأقلية.
توفير الضمانات العدلية والقضائية للأفراد.
الأصل العاشر: ضرورة الجهاد لحماية الأمة وصيانة الدولة.
جاء في خطبة أبي بكر بعد البيعة “وما ترك قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل” وقد وجب الجهاد بنوعيه:
جهاد الدفع (دفع العدو الغازي).
جهاد الفتح (لتحرير الشعوب من ظلم القياصرة والأكاسرة وطغيانهم).
مواضيع مماثلة
» أصول الحوار والنقاش الناجح
» موسوعة أصول الفقه - الإصدار الثالث
» حفظ الطعام أصول ومبادئ
» إتيكيت أصول الجيرة وقواعدها؟
» فقه البلاغ الإسلامي
» موسوعة أصول الفقه - الإصدار الثالث
» حفظ الطعام أصول ومبادئ
» إتيكيت أصول الجيرة وقواعدها؟
» فقه البلاغ الإسلامي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى