سقوط.. المملكة الفارسية
صفحة 1 من اصل 1
سقوط.. المملكة الفارسية
سقوط.. المملكة الفارسية
===============
أن جيش الأحنف بن قيس وصل إلى بَلْخ لقتال يزدجرد شخصيًّا في حاشيته الملكية، ولم يتمكن يزدجرد من الفرار واضْطُرَّ إلى قتال الأحنف بن قيس بنفسه، وكان يزدجرد قد أقام معاهدات مع الممالك المحيطة بالدولة الفارسية؛ فأرسل خطابًا إلى ملك الصين، وخطابًا إلى ملك الصُّغْد، وخطابًا إلى ملك الترك؛ أما ملك الروم فكان يعيش في الحروب التي تدور في مملكته، غير الحروب الطاحنة التي كانت بين الفرس والروم مما أثَّر على علاقتهما.
ووصلت رسائله إلى الملوك، فأجابه ملك الترك بإرسال جيش لنجدته، وقد دخل الجيش الإسلامي في بلاد الترك، وكان أول من دخل سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، فوجدها ملك الترك فرصة ليتحد مع ملك الفرس في حرب ضد الجيش الإسلامي، لعله يستطيع إخراجه من بلاده، وتوجه جيش الترك بالفعل تجاه بلخ.
ووافق ملك الصُّغْد على طلب يزدجرد وأرسل جيشًا لمساعدة كسرى فارس.
رد ملك الصين على رسول كسرى:
أما ملك الصين فكان أحكمَ من ملكي الترك والصغد؛ فقد حاور رسول كسرى، وقد سُجِّلَ هذا الحوارُ؛ لأن كثيرًا ممن سمعوا هذا الحوار قد أسلموا، ويقال: إن رسول يزدجرد نفسه أسلم.
ابتدأ ملك الصين قائلًا للرسول: إن حقًّا على الملوك إنجادُ الملوك على من غلبهم؛ فصِفْ لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإني أراك تذكر قلةً منهم وكثرةً منكم، ولا يبلغُ أمثالُ هؤلاء القليل الذين تصف منكم -مع كثرتكم- إلا بخير عندهم وشرٍّ فيكم.
فقال الرسول: سلني عما أحببت. فقال ملك الصين: أيوفون بالعهد؟ قلت: نعم. قال ملك الصين: وما يقولون لكم قبل القتال؟ قال الرسول: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبنا أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة. ويتضح من أسئلة ملك الصين أنه كان يتابع الحروب الإسلامية، فالحروب تدور رحاها في المملكة المجاورة واستمرت اثني عشر عامًا، فهو يسأل عن أمور محددة يريد أن يستوثق منها من رسول يزدجرد. قال ملك الصين: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قال الرسول: أطوع قوم لمرشدهم. وهذه هي مفاتيح النصر، يجيب بها رسول كسرى على أسئلة ملك الصين.
قال ملك الصين: فما يُحِلُّون وما يحرِّمون؟ فعدَّد عليه الرسول بعض الأمور، وقد أثَّر ما ذكره في ملك الصين، لكن ما يهمّ هو السؤال التالي الذي طرحه ملك الصين على الرسول فقال له: هل يحلون ما حرم عليهم، أو يحرمون ما حلل لهم؟ قال الرسول: لا. قال ملك الصين: فإن هؤلاء القوم لا يزالون على ظَفَر حتى يحلوا حرامهم أو يحرموا حلالهم.
وإذا كنا نعيش في وضع من الضعف والهزائم غير الوضع الذي عاش فيه المسلمون من قبل، فقد يكون ما ذكر ملك الصين هو السبب، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها، ولو كان قائلها ملك الصين.
ثم قال ملك الصين: أخبرني عن لباسهم؟ فيشرح له الرسول بساطة ثيابهم. ثم قال ملك الصين: أخبرني عن مطاياهم؟ فقال الرسول: الخيلُ العِرَابُ الأصيلة، ووصفها له، والإبلُ العظيمة ووصفها له.
فكتب ملك الصين إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحِقُّ عليَّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولُك لو يطاولون الجبال لهدوها، ولو خلا لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارضَ منهم بالمساكنة، ولا تهْجُهُم ما لم يهجوك.
ورفض ملك الصين أن يرسل إليه بمدد ينجده خوفًا من حرب المسلمين.
وحوى هذا الحوار حِكمًا كثيرةً من الممكن أن نستفيد منها فالتاريخ يعيد نفسه، ونحن الآن في وضع يدعونا لاستخراج الحكمة والبحث عنها، والحكمة كاملة في ديننا، وسيتضح هذا الأمر في نهاية الدرس في مقولة لسيدنا عمر بن الخطاب t.
عودة للأحنف بن قيس:
كان الأحنف بن قيس أسرع من ملك الترك وملك الصغد فوصل بجيشه إلى بلخ قبلهما، وحارب يزدجرد والتقى الجيشان في أول معركة يحارب فيها يزدجرد بنفسه؛ فقد تعود الهرب منذ دخول الجيوش الإسلامية إلى أرض فارس، وكأنما كُتِبَ عليه الهروبُ منذ ميلاده؛ فقد هربت به أمه وهو طفل خوفًا عليه من كسرى ليقتله، ثم أحضروه ليتولى الحكم وكان عمره يومئذ إحدى وعشرين سنةً.
وبدأ القتال وتخيل حال جيش ظل يهرب من مكان إلى آخر حتى ألجأته الظروف للحرب مع جيش يتقدم من مكان إلى آخر، وكيف حاله وهو يقابل جيشًا يحرص على الموت حرصهم على الحياة، وكانت هذه المعركة من أقصر المعارك في الفتوحات الإسلامية، فما هي إلا ساعات قليلة حتى عملت السيوف الإسلامية في رقاب الجيش الفارسي، وكان يزدجرد يقاتل في مؤخرة الجيش، وكالمعتاد لما رأى سيوف المسلمين تأخذ مأخذها من جيشه؛ لاذ بالفرار بقلة من جيشه عابرًا النهر داخلًا في مملكة الترك..
ويقف سيدنا الأحنف بن قيس على آخر حدٍّ من الحدود الفارسية، ولم يكن لسيدنا الأحنف بن قيس أن يعبر إلى مملكة الترك دون أن يأذن له سيدنا عمر بن الخطاب، وكان قد أرسل إلى الأحنف رسالة بأنه إذا وصل إلى هذه النقطة فلا يعبر إلى مملكة الترك، فلم يفكر سيدنا عمر في الدخول في الأراضي التركية؛ لأن جيوش المسلمين متفرقة في أماكن واسعة، فالجيش الذي قضى على الدولة الفارسية قوامه عشرون ألف مسلمٍ، قد توزعت بقية الجيوش الإسلامية على أقاليم الدولة الفارسية، فخشي سيدنا عمر بن الخطاب من تشتت الجيوش في الأراضي التركية، وبذلك يضيع النصر الذي حققه في البلاد الفارسية، فكانت أوامره ألا يتعدَّى نهر جَيْحون حتى وإن هرب يزدجرد خلف هذا النهر، ويقف الأحنف بن قيس طاعة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولم يتقدم ليعبر نهر جَيْحون.
بعد الانتصار الذي حققه سيدنا الأحنف بن قيس في بلخ، وسقوط الدولة الفارسية، وبعد أن اطمأن على الوضع فيها تركها عائدًا بجيشه إلى مرو الروذ بعد أن ترك بها حامية لتحميها.
لم ينته الأمر بالنسبة ليزدجرد بعدُ؛ فبالأمس القريب كان ملكًا على مملكة كبيرة من أقوى الممالك في ذلك الوقت، واليوم أصبح فارًّا مطارَدًا، وقد فَقَدَ كنزه المدفون في مرو الشاهجان، وفقد وضعه الاجتماعي، وما بين عشية وضحاها سُلِبَ منه كُلُّ ما يملك، وبعد أن كان يتقلب في النعيم أصبح من أهل الجحيم.
واستنجد يزدجرد بملك الصغد وملك الترك على الجيش الإسلامي رغبة في الانتصار عليه، أو تحرير الكنز المدفون في مرو الشاهجان على أن يقاسمه الكنزَ ملكُ الترك، ووافق ملك الترك، وعبرت الجيوش التركية التي تحالفت مع الجيش الفارسي، واضطرت الحامية المرابطة في بلخ إلى الانسحاب إلى الأحنف بن قيس في مرو الروذ؛ لما رأت كثرة عدد الجيش القادم من مملكة الترك، ويستولي يزدجرد والخاقان على بلخ مرة أخرى.
واتجهت الجيوش الفارسية المتحالفة مع الجيوش التركية إلى مرو الروذ لمقابلة الأحنف بن قيس، وعسكرت هذه الجيوش قرب مرو الروذ، وجهز الأحنف بن قيس جيشه لما علم بانسحاب الحامية الإسلامية من بلخ، وتلتقي الجيوش في معركة في مرو الروذ، وهذه المعركة ليست على غرار معركة بلخ، فالجيوش التركية كانت كبيرة العدد بجانب جيش الصغد وبقايا الجيش الفارسي، فكانت من المعارك الشديدة في هذه الفترة، واستمرت المعركة أيامًا، وكانت الفلول تأتي من جهات مختلفة، ومن خارج حدود مرو الروذ وأحاطت هذه الفلول بالجيش الإسلامي، وكانت العادة القتال نهارًا، وفي أثناء الليل خرج الأحنف ليلًا ليعرف أخبار جنوده، ولعله يسمع برأي ينتفع به، فمر برجلين ينقيان علفًا، وأحدهما يقول لصاحبه: لو أنا أميرنا أسند ظهرنا إلى هذا الجبل وجعل النهر على يميننا من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوتُ أن ينصرنا الله. فقد خشي المسلمون الحصار في أرض لا يعرفونها، فسمع الأحنف بن قيس ذلك الرأي وأعجبه، فلما أصبح جمع الناس وقال لهم: إني أرى أن تجعلوا ظهوركم إلى هذا الجبل. ثم قال لهم: أنتم اليوم قليل وعدوكم كثير فلا يَهُولَنَّكم؛ فـ{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. بعد الوضع الذي اتخذه المسلمون بدأت الكفة ترجح نسبيًّا في جانب المسلمين ولكن لم يتحقق النصر الكامل، وقاتل المسلمون من جهة واحدة، فأصبح الأمر معتمدًا على كفاءة المقاتل المسلم، وليس على حصار الفرس والترك كما كان في بداية المعركة.
وفي ليلة من ليالي المعركة خرج الأحنف قائد الجيوش طليعةً لأصحابه أو دورية استكشافية بين الحدود الفاصلة بين الجيشين ليدرس الموقف؛ ليعرف كيف ينتصر على هذا الجيش، حتى إذا كان قريبًا من عسكر الخاقان وقف، فلما كان وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه فضرب بطبلة، وكانت عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم أكفاء كلهم يضرب بطبلة، ثم يخرجون بعد خروج الثالث. ثم وقف الفارس من العسكر موقفًا يقفه مثله، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه الأحنف فقتله وأخذ طوق التركي ووقف، فخرج فارس آخر من الترك ففعل فعل صاحبه، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه فقتله وأخذ طوقه ووقف، ثم خرج الثالث من الترك ففعل فعل الرجلين، فحمل عليه الأحنف فقتله، ثم انصرف الأحنف إلى عسكره.
وبالفعل خرجت الجيوش التركية بعد الثالث فأتوا على فرسانهم فوجدوهم قتلى، وكانوا أهل تشاؤم وتفاؤل كالفرس؛ فتشاءم خاقان وتطيَّر، وتسربت الهزيمة إلى قلوب جيشه.
وتعددت الروايات بالنسبة لموقف الخاقان وجيشه التركي، فبعض الروايات تذكر أنهم عادوا إلى بلادهم ولم يقاتلوا، وقال الخاقان: قد طال مقامنا وقد أصيب فرساننا، ما لنا في قتال هؤلاء القوم خير؛ فرجعوا. وارتفع النهار للمسلمين ولم يروا منهم أحدًا، وأتاهم الخبر بانصراف خاقان والترك إلى بلخ.
وتذكر بعض الروايات الأخرى أن المعركة تمت، وحمل الأحنف بن قيس رايته وانطلق داخل الجيش التركي وأوقع بهم هزيمة رهيبة.
ونعلم أن يزدجرد كان مع الجيش التركي وكان بينهما اتفاق، وهو ما دفع الخاقان الدخول في حرب مع المسلمين، ولم يكن المسلمون على علم بتلك الاتفاقية.
وأثناء القتال ترك يزدجرد الخاقان مقابل المسلمين بمرو الروذ وانصرف بحاميته الفارسية إلى مرو الشاهجان، وكان بها حامية إسلامية صغيرة على رأسها حاتم بن النعمان، وكان الجيش الفارسي أكبر نسبيًّا من الجيش الإسلامي، فضرب عليهم الحصار، واستطاع يزدجرد ومن معه الدخول إلى مرو الشاهجان بعد انسحاب الحامية الإسلامية، وانكشف ما اتفق عليه يزدجرد والخاقان، فقد شغل الترك جيش المسلمين في مرو الروذ ليتمكن يزدجرد من الحصول على الكنز المدفون في مرو الشاهجان ثم يعود إلى مملكة الترك، وفي الوقت الذي وصلت فيه الأنباء إلى الأحنف بن قيس كان الجيش الإسلامي قد حقق انتصاره على الجيش التركي، وكان أمام الأحنف اختياران إما أن يسير إلى بلخ بالقوى الأساسية، أو يسير إلى مرو الشاهجان حيث يزدجرد وكنزه المدفون، فاختار الأحنف أن يسير إلى مرو الشاهجان لسببين؛ أولهما: أنه لا يريد أن يقع بين جيشين في الشمال والجنوب.
والسبب الثاني: طاعته لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عدم تجاوزه نهر جيحون.
لما علم يزدجرد أن الأحنف لحقه وقادم إليه أُسْقِطَ في يده، فهو لم يكن يتوقع أن تأتي إليه الجيوش، بل توقع أنها ستذهب إلى الجيش التركي، فهرب يزدجرد كعادته.
الفرس ينقلبون على يزدجرد:
فلما جمع يزدجرد خزائنه، وكانت كبيرة عظيمة، وأراد أن يلحق بخاقان، قال له أهل فارس: أي شيء تريد أن تصنع؟ قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين. قالوا له: إن هذا رأي سوء، ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم؛ فإنهم أوفياء وهم أهل دين، وإن عدوًّا يلينا في بلادنا أحب إلينا من عدو يلينا في بلاده ولا دين له، ولا ندري ما وفاؤهم. فأبى عليهم، فقالوا: دع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يلينا، لا تخرجها من بلادنا. فأبى، فاعتزلوه وقاتلوه فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها وانهزم منهم ولحق بخاقان، وعبر النهر من بلخ إلى فرغانة، وصالح الجنود الفارسيون سيدنا الأحنف بن قيس على الجزية وأعطوه كنز يزدجرد، فباعه المسلمون بمائة وخمسين مليون درهم، وقسم مائة وعشرين مليون درهم على العشرين ألفًا؛ فكان نصيب الفرد ستة آلاف درهم.
أخبار النصر تصل المدينة:
وأرسل إلى سيدنا عمر بن الخطاب خبر الفتح ومعه ثلاثون مليون درهم خُمس الغنائم، فما كان من سيدنا عمر بن الخطاب إلا أن جمع الناس وقرأ عليهم كتاب الأحنف بن قيس، ثم خطب خطبة فقال: "إن الله تعالى ذكر رسوله، وما بعثه به من الهدى، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة، ثم قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، الحمد لله الذي أنجز وعده ونصر جنده، ألا إن الله قد أهلك مُلْكَ المجوسية وفرَّق شملهم، فليسوا يملكون بأيديهم شبرًا يضر بمسلم، ألا إن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، ألا وإن المِصْرَيْن (الكوفة والبصرة) من مسالحها (المدن الصغيرة التابعة) اليومَ كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد، وقد أوغلوا في البلاد، والله بالغ أمره، ومنجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله؛ فقوموا في أمره يوفِ لكم بعهده، ويؤتكم وعده، ولا تُبدِّلوا ولا تغيروا؛ فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإني لا أخاف على هذه الأمة إلا أن تُؤتَى من قِبَلِكُم".
ونضع كلمات سيدنا عمر بن الخطاب نصب الأعين لتكون لنا درسًا من الفتوحات الفارسية، تعيه قلوبنا وخاصة آخر كلامه، فهو لا يخاف على هذه الأمة من الفرس أو الروم أو الصين أو من غير ذلك بقدر ما يخاف أن تؤتى هذه الأمة من قبلها، وذلك إذا أحلَّت الأمة حرامها وحرَّمت حلالها، وإذا حدثت الفرقة بين المسلمين حتى لو حقق كل فرد أعلى درجات التقوى، طالما أنه يعمل بمفرده ولا يتعاون مع الآخرين لتحقيق أمة مترابطة ومتماسكة وقوية البنيان.
ودائمًا ما كان سيدنا عمر يقول لجيش المسلمين: إني أخاف عليكم من الذنوب أخوف من جيش الفرس ومن جيش الروم. وكان الجيش الإسلامي -في ذلك الوقت- قد حقق هذه الصفات التي هي مفتاح النصر؛ لذا أتم الله تعالى لهم فتح المملكة الفارسية، ودانت لهم مملكة من أعظم الممالك في ذلك الوقت.
مقتل كسرى يزدجرد:
وتزامن سقوط الدولة الفارسية مع فتح المسلمين لبرقة في تونس، وتوغلهم في أرض الروم حتى حدود المملكة التركية.
وبعد هذا السقوط المفزع الذي لحق بيزدجرد، إضافة إلى محاربة جنده له وأخذ كنزه، وصل يزدجرد إلى خاقان الترك فاستُقْبِل استقبال الملوك، ثم سأله أحد عماله (وكان على مرو الشاهجان وكان اسمه ماهويه) ابنته ليتزوجها؛ فغضب يزدجرد غضبًا شديدًا، وقال له: إنما أنت عبد من عبيدي. فعمل ماهويه على تقليب الحاشية على يزدجرد، وقررت الحاشية قتله، فهرب يزدجرد من الحاشية الفارسية حتى انتهى إلى بيت طحَّان فآواه وأطعمه ثم سقاه الخمر فلعبت برأسه؛ فأخرج تاجه ووضعه على رأسه فعرفه الطحان، ثم أخبر ماهويه، وتشاءم ماهويه من قتل يزدجرد بنفسه أو أحد من حاشيته؛ فقد كانوا يعتقدون أن من قتل كسرى أو قتل ملكًا عُذِّبَ بالنار في الدنيا، فأوحى إلى الطحان بقتله، فأخذ فأسه وضرب يزدجرد فاحتز رأسه بها، وبعد قتل الطحان لكسرى قال ماهويه: ما ينبغي لقاتل ملك أن يعيش. فقتل الطحان، وألقى جثة يزدجرد في نهر جيحون، وحملت المياه جثته إلى مكان قريب من مرو الشاهجان، وتعرف عليه مطران على مرو يقال له: إيلياء، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال لهم: إنَّ ملك الفرس قد قتل، وهو ابن شهريار بن كسرى، وإنما شهريار وَلَدُ شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقَّها وإحسانها إلى أهل ملَّتها من غير وجه؛ ولهذا الملك عنصر في النصرانِيَّة مع ما نال النصارى في مُلك جدِّه كسرى من الشرف، وقبل ذلك في مملكة ملوك من أسلافه من الخير، حتى بنى لهم بعض البِيعَ؛ فينبغي لنا أن نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان أسلافه وجدّته شيرين إلى النصارى؛ وقد رأيت أن أبني له ناووسًا، وأحمل جثّته في كرامة حتى أواريها فيه.
وانتهت بذلك قصة آخر ملك تولى حكم فارس، وكان من عادة الفرس أن يبتدئوا التقويم من اعتلاء كسرى لكرسي العرش، وبموت الملك ينتهي التقويم ويبتدئ تقويم جديد ببداية عهد كسرى جديد، ولم يأت بعد يزدجرد أحد ليسير المجوس -إلى هذه اللحظة- بالتقويم اليزدجردي، وما زالت هذه الطائفة باقية وموجودة وتعرف بالزرادشتية.
بعد انتهاء الفتوحات الفارسية والانتصار العظيم الذي حققه المسلمون، الذي لا نستطيع إعطاءه حقه إلا بعد قيام من ينشر الخير، ويبشر بهذا الدين وينشره في ربوع الأرض، وفي كل مكان في العالم، في هذا الوقت نستطيع أن نعرف مقدار الجيش الإسلامي الذي خرج بعد حروب الردة مباشرة -رغم عدد قتلى المسلمين في معارك الردة- لغزو الفرس والروم، وشمال إفريقيا حتى وصل إلى الأندلس.
وذكر أبو الحسن الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) عن (علم مقارنة الأمم) فقال: بالمقارنة.. قوة المسلمين إلى قوة الفرس وقوة الروم في ذلك الوقت، هي أضعف من قوة المسلمين في هذا الوقت من قوة روسيا وأمريكا قبل سقوط روسيا، وقوة الفرس والروم أشد على المسلمين من قوة روسيا وأمريكا على المسلمين الآن، لكن الفارق عوامل النصر التي كانت موجودة من قبل، ولو أراد المسلمون العزة والمنعة والنصر وعملوا له لحققه الله تعالى؛ فلا شيء يعجزه وكل شيء بيده.
هدف الفتوحات الإسلامية:
هل يوجد تعارض بين الفتوحات الإسلامية التي كانت عن طريق حروب شديدة مع قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؟ مع أن الآية واضحة وصريحة، وأن الفرس لم يهاجموا المسلمين، بل المسلمون هم الذين حاربوهم في بلادهم.
الحقيقة أن هذا الأمر من الأهمية بمكان ولا بد من الوقوف على حقيقته، وفي هذا يقول أحد العلماء: إن حركة الفتوحات الإسلامية لم تكن لمجرد الدفاع عن الدولة الإسلامية كما يحاول بعض المسلمين الدفاع عن الإسلام، والقول بأن الإسلام لا يحارب إلا دفاعًا، ويظن أنه يخدم الإسلام بذلك، حتى لا يُطْلَق على الإسلام أنه دين إرهاب، أو أنه يحاول الضغط على هذه الدول لتعتنق الإسلام، ونذكر أن الإسلام ليس دينًا دفاعيًّا فقط، بل فرض عين على المسلمين أن ينشروا الدعوة خارج حدودهم حتى يَعُمَّ الإسلام ربوع الأرض، والمسلمون لم يفرضوا الإسلام على أية أمة من الأمم، لكنه يحرر هذه الشعوب من الطواغيت التي تحكمهم وتمنعهم من اختيار الدين المناسب؛ فمثلًا كان الشعب الفارسي يتبع ولاته في عبادة النار، ولا يحق لهم اختيار ما يدينون به، لكن دين الله لا بد أن يصل إلى هذه البلاد، وإلى كل فرد، ثم يترك له حرية الاختيار في اعتناقه للإسلام أو عدم اعتناقه، أما إذا تركه المسلمون دون إبلاغ فهم آثمون، فكانت مهمة الجيوش الإسلامية محاربة الطبقة الحاكمة التي تأبى أن تطيع أمرَ الإسلام، بعد عرض الإسلام عليهم وبعد عرض الجزية، والجزية حلٌّ أفضل للمعاهِدين من الأموال والضرائب التي يدفعونها لحكوماتهم وأقل مما يدفعه المسلمون زكاةً؛ ولذا كانت هذه الشعوب تغتبط بالحكم الإسلامي.
بعد عرض هذه الأمور الثلاثة: الإسلام أو الجزية أو المنابذة؛ فإن رفض القوم الإسلام أو الجزية قاتل الجيش الإسلامي الجيش الفارسي والجيش الرومي ولا علاقة له في الحرب بمن لا يحارب، لا يقاتل الفلاحين، ولا من يعبد الله في محرابه أو في كنيسته أو في صومعته أو حتى في معبد النار، لكنه يقاتل من يقفون أمام نشر دين الله I، حتى إذا خلَّى بين الناس وبين الاختيار، ترك لهم المسلمون حرية العقيدة، يعبدون ما شاءوا أن يعبدوا بعد توضيح الإسلام لهم، فإن رضوه دينًا كان بها، وإن لم يرضوه أقرُّوهم على ديانتهم، رغم أن الدولة الفارسية تعبد النار وليسوا أهل كتاب، ومع دفعهم الجزية يتركهم المسلمون يعبدون النار، وفي مقابل الجزية يمنعهم المسلمون ويدافعون عنهم، ولم يكن غرض المسلمين من الفتوحات التكالب على الدنيا، بل أوقف سيدنا عمر بن الخطاب الحروب خشية كثرة الغنائم على نفوس المسلمين، فهل هناك قائد أي جيش فاتح يوقف الحروب؛ لأنه يخاف على أتباعه من كثرة الغنائم؟!
ولم تحمل الرسائل التي بعثها سيدنا عمر بن الخطاب بين طياتها أي غرض من أغراض الدنيا بل كان جُلُّ همه الآخرة وترك الدنيا، ولو وضعوا أعينهم على الآخرة لربحوا الدنيا والآخرة، وإذا وضعوا أعينهم على الدنيا خسروهما معًا، وهذا هدف نبيل من أهداف الفتوحات الإسلامية، ولا نخجل من ذكر انتشار الإسلام في هذه البلاد بهذه الحروب، بل الإسلام أعطى الفرصة لهؤلاء الناس ليتعرفوا عليه، تاركًا لهم حرية الاختيار.
ونتساءل: هل سيأتي اليوم الذي نفرح فيه عندما نرى انتشار الإسلام في أوربا وأمريكا وروسيا وكل ربوع الأرض؟ نعم، سيأتي هذا اليوم لكن بجدٍّ واجتهاد من المسلمين في تعريف البشرية بديننا الحنيف، وقد وعد الله بتحقق ذلك، ونحن نؤمن بموعود الله وأن دين الله سيعمُّ كُلَّ الأرض، ويعز الإسلام كما كان من قبل ويَذِلُّ الشرك، ولكن الفكرة تكمن فينا، وهل سيكون لنا دور في ذلك أم نتولى؛ فيحق علينا قول الله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]؟ فبداية الهَلَكَة كما وضحها ملك الصين: يحلُّوا حرامهم ويحرِّموا حلالهم. ولا بد أن يستشعر كل إنسان أن النصر يتأخر بمعصيته وذنبه، فالزوج الذي يترك زوجته تخرج إلى الشارع بدون حجاب، وكذلك الأب الذي يترك ابنته بدون حجاب هذا الأمر يؤخر النصر، رغم أن هذا شيء فردي وخاصٌّ به إلا أنه يحرم حلالًا ويحل حرامًا، ويؤخر النصر, كذلك من يتعامل بالربا، ومن يتعامل في الخمر، والغيبة والكذب، وكل من يقوم بشيء مخالفٍ يحرم فيه حلالًا ويحل حرامًا.
ويؤخر النصر أيضًا -ولو كان الأفراد على أعلى درجات التقوى- إذا انصرف كلٌّ إلى نفسه لا يفكر في الآخرين، بل لا بد لهذه النفوس التقية أن يجتمع بعضها مع بعض في دولة واحدة، وليس من الصعب على المسلمين أن يعيشوا تحت لواء دولة واحدة تنشر الخير وتنشر الإسلام في أرجاء المعمورة، وقد ظل الإسلام يحكم وله دولة قائمة تجمع شمل المسلمين ألفًا وثلاثمائة عام، ولم يعش المسلمون سوى خمسة وسبعين عامًا فقط متفرقين بعد إسقاط الخلافة العثمانية، وهذه المدة ليست بشيء في حياة الأمم، واجتماع هذه الأمم ليس بالصعب ولا العسير، فالأهم من ذلك الإرادة القوية التي تجمع هذه الشعوب، وتبدأ بتكوين الحكومات الإسلامية داخل بلادنا ونشر الإسلام فيها، ثم تتحد هذه البلاد في أمة واحدة تحافظ على العدل والمحبة وتنشر الإسلام في ربوع الأرض، وكلٌّ له دور في مكانه..
وكما يقول النعمان بن مُقَرِّن لما خطب المسلمين في معركة نهاوند: ولا يكِلْ أحدُكم قِرْنَه إلى أخيه. فليبدأ كلٌّ منا بنفسه، ويقربها من الله I مبتعدًا عن الحرام، مقتربًا من الحلال، مكثِرًا من الطاعات، وكل هذه الأشياء من عوامل النصر، ثم يقوم بدعوة غيره إلى الخير والكفِّ عن المعاصي، وليكن لك دور في مجتمعك، لا أن تعيش لنفسك فقط، ويكون جُلُّ همِّك جمع الأموال، أو تحقيق منافع شخصية، حتى ولو كانت على المستوى العبادي والإيماني.
ويقول أحد المصلحين ملخصًا هذا الكلام: أصلحْ نفسَك وادعُ غيرَك، ولو حاول كل منا أن يقيم دولة الإسلام في قلبه لقامت على أرضه، أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقمْ على أرضكم. وحتمًا لو سلكنا الطريق الصحيح سنصل إلى ما وصل إليه الصحابة من نصر وتمكين بإذن الله.
الكاتب: د. راغب السرجاني
المصدر: موقع قصة الإسلام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى