منتدى القاضى - الأسرة والمجتمع العربى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

استحلاء الطاعات سموم قاتلة

اذهب الى الأسفل

نقاش استحلاء الطاعات سموم قاتلة

مُساهمة من طرف واحد من الناس السبت نوفمبر 24, 2012 5:22 pm

استحلاء الطاعات سموم قاتلة
حدثني بعض الفقراء عن شيخ له من أهل العصر المتصدر لصحبة المريدين أنه بينما هو جالس في محله جاء فقير غريب، وأظنه قال‏:‏ من ‏"‏ناحية‏"‏ السوس الأقصى، فلما قرب منه تكلم لبعض من كان حاضرًا بلسانه البربري فقال له‏:‏ قل لذلك ‏"‏الرجل يعني‏"‏ الشيخ المذكور‏:‏ أما بقيت في الدنيا مصابيح يقتبس الضوء منها‏؟‏ فبلغ الرجل لذلك الشيخ فقال الشيخ‏:‏ قل له‏:‏ قد بقيت، ولكن من جاء يقتبس أتى بفتيلة مبلولة، فقال الفقير‏:‏ قل له‏:‏ ما معنى بللها‏؟‏ فقال الشيخ‏:‏ قل له‏:‏ لا أقل من أن يطلب أو يترجى الولاية، فقال‏:‏ فوضع الفقير يده على جبهته ساعة ثم انصرف من هنالك، فلما رأيت الفقير الذي حدثني تبجح بهذا الكلام الصادر من شيخه وجعله من التنبيهات المهمة للسالك، وكنت جاريته كلامًا في استحلاء الطاعة فقال‏:‏ إن تلك الحلاوة علة، وعلمت أنه أيضًا قد بنى على ذلك وأنهم سمعوا نحو قول الواسطي رحمه الله‏:‏ ‏"‏استحلاء الطاعات سموم قاتلة‏"‏ فأردت أن أنبّه على غلط يخشى في هذا الأمر، فأقول وبالله التوفيق‏:‏ إن كلًا من الكلام الواقع للواسطي والواقع من هذا الشيخ صحيح في نفسه، وهو تحقيق في بابه، وعند أربابه، أما إلقاؤه لعوام المتوجهين فغلط في التربية، إما جهلًا وقصورًا، وإما تمويهًا وتظاهرًا بالنهايات، أما حديث الولاية فمن وجهين‏:‏

***

الأول أن التدريج معتبر عند الناس، وهو حكمة الله تعالى البالغة الجارية في الناميات الحسيات والمعنويات، ثم ارتكاب أخف الضررين مطلوب شرعًا، فلو رأينا مثلًا كافرًا مضرًا بالمسلمين وتعذر قطع ضرره بالسيف فإنا إذا أمكننا أن نستنزله عن الضرر بسبب ‏"‏من‏"‏ موعظة أو مال أو حظ ما فعلنا ذلك، ورأيناه إذا نزل عن ذلك أفضل من غيره، وإلى هذا الفضل إشارة حديث‏:‏ «أسْلَمْتَ عَلى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ» ولو أمكن أن نستدرجه إلى الإسلام ولو بحظ من دفع مال أو إظهار حفاوة مثلًا لفعلنا ذلك، وهو التأليف الذي جاءت به الشريعة، ورأيناه إذا أسلم ولو مع شوب الحظ أفضل ممن بقي على الكفر المحض ولا نلزمه في هذه الحالة الإخلاص وحقائق الإيمان لأنا نرجو أن سيعاشر المؤمنين ويعاين محاسن الإسلام فلا يزال يتمكن ويصفو، وهكذا وقع لكثير ممن أسلم أوّلًا رغبة في المعاش واستحلاء للغنائم، أو هربًا من الجلاء والسيف‏.‏

ثم إن المسلم إذا كان مسرفًا على نفسه وأمكننا أن نستجرّه إلى ترك المعاصي والتنزه عن الفسق فعلى هذا النمط ولو تاب إلى الله تعالى وأقلع عن الشهوات الدنيوية طلبًا لما أعد الله تعالى في الدار الآخرة من النعيم الذي لا يوازيه نعيم الدنيا ولا يدانيه، وكان لا يجد من نفسه في الحال نزوعًا عن اللذائذ العاجلة إلاّ بما يمنيها به من اللذائذ التي هي أشرف وأنفس فإنا نساعده على هذه العزمة ولا نذمه بأنه انتقل من حظ إلى حظ، ولا نطالبه بارتفاع الهمة ‏"‏إلى الحضرة‏"‏ والتخلي عن الدارين، فإن هذا لم يكن بعد من أهل هذا الشأن، وأن النفس لَجوج مصرّة على حظوظها الحسية، وإنما تنزل عنها بالطمع فيما هو من جنسها وأشرف منها إلاّ من خصه الله تعالى‏.‏

وقد قال صاحب ‏"‏القواعد‏"‏‏:‏ ‏"‏ما جبلت عليه النفوس فلا يصح انتفاؤه عنها، بل ضعفه وقوته فيها، وتحويله عن مقصد لغيره، كالطمع لتعلق القلب بما عند الله تعالى توكلًا عليه ورجاء فيه والحرص على الدار الآخرة بدلًا من الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ إلى آخر كلامه فلو ألزمنا هذا عزل النفس عن الحظوظ وتجريد القلب للحقيقة أوشك تحيص نفسه حيصة وهي لم تزل قوية، فيعود من حيث جاء، ولعلك تفهم بهذا سر امتلاء كتاب الله تعالى بذكر الجنة وما فيها من الحور والقصور والغلمان والأنهار، فإن الدعاء بمثل هذا هو مشرب النفس، وهو حال عامة الخلق، والله تعالى أعلم بمصالح عباده‏.‏

ثم إذا ترفع المزيد عن هذه الحالة واشرأبَّ إلى ما وصل إليه العارفون، وانتهض لسلوك هذا المسلك والاشتغال بعمله من العزلة والصمت والجوع والسهر فلو توسمنا فيه التشوف إلى حصول الوصول، أو الولاية، أو المعرفة، أو الفتح، أو القرب، أو نحو ذلك فلا ينبغي أيضًا أن نعالجه بالتحقيق ونطالبه بالعبودية والفناء عن الأغيار من أول وهلة، بل نرخي له العنان حتى يتمكن في الرياضة وتنقاد نفسه ويقشعر جلده وقلبه لذكر الله، فعند ذلك تسهُلُ إشالته مع السابقة والتوفيق إما على لسان شيخ ناصح أو أخ صالح أو بعض من ينصره الله به كما وقع للشيخ أبي الحسن رضي الله عنه حيث قال‏:‏ كنت أنا وصاحب لي في مغارة نتعبد ونقول‏:‏ غدًا يفتح علينا، وهكذا وطال علينا الأمر، فبينما نحن كذلك يومًا دخل علينا رجل من باب المغارة فسلم ورددنا عليه ثم قلنا له‏:‏ من أنت‏؟‏ فقال‏:‏ عبد الملك، فعلمنا أنه من أولياء الله، فقلنا له‏:‏ كيف أنت‏؟‏ قال كالمنكر علينا‏:‏ كيف أنت‏؟‏ كيف أنت‏؟‏ كيف حال من يقول‏:‏ غدًا يفتح علي فلا فتح ولا فلاح، ولا دين ولا دنيا، يا نفس لم لا تعبدين الله مخلصة له الدين، قال الشيخ‏:‏ فعلمنا من أين أتينا ورجعنا على أنفسنا باللوم، وقلت‏:‏ يا نفس، أي شيء أنت حتى تطلبي ما تطلبين أو كلامًا هذا معناه، فقال فجاء الله تعالى بالفتح أو موهبة من الله تعالى بلا واسطة سبب، وما ذلك على الله بعزيز‏.‏

وبالجملة فدواعي النفس صعبة الانفصال عن الإنسان، ومع ذلك فهي معينة في بابها «إنَّ اللهَ يؤيِّدُ هَذا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ»، ومتى وافق الحق الهوى فزبد وعسل‏.‏


ثم ‏"‏إن‏"‏ التجرد العام، والصفاء التام، عزيز الوجود، ومن ثم قال الشيخ أبو العباس بن العريف رحمه الله‏:‏ علق العباد بالأعمال، والمريدون بالأحوال، والعارفون بالهمم، فالأعمال للجزاء، والأحوال للكرامات، والهمم للوصول، والكل عمى وتلبيس، إلى أن قال‏:‏ وإنما يبدو الحق عند اضمحلال الرسم، وما سوى الله حجاب عنه، فهذا مقام التحقيق، ولكن لمن أهل له وبلغه، وليس للمرء أن يلزم به المريد بأول قدم، ولا أن يطمع بحصوله لكل متوجه، ولا أن يطمع بحصوله لكل متوجه، ولا أن لم يحصل له لم يحصل له فليس من أهل الطريق، ‏"‏كلا‏"‏ لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله‏.‏

والرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وما على العبد إلاّ تعاطي الأسباب، وعلى الله فتح الباب، وهو موهبة وخصوصية من الحق لا تنال بمقياس، فمن أراد الله تعالى توصيله طوى عنه مسائف نفسه، ومحا عنه وهمه، فإذا هو عند ربه ومن أراد أن يمادَّه في ميدان أوهامه بقي فيها بقاء بني إسرائيل في التيه‏.‏

أما ترى إلى قول الشيخ عبد السلام بن مشيش في برد الرضا والتسليم‏:‏ أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله تعالى‏:‏ فنقول‏:‏ نعم، ثم لو جرد عن تلك الحلاوة لأوشك أن يشتغل بذلك التجريد عن الله تعالى ما دام يلاحظه، فإن كل ما سوى الله حجاب عنه، ثم هكذا في التجريد عن التجرد والفناء عن الفناء إلى ما لا يتناهى حتى يقطع الله تعالى ذلك بموهبته لمن اختصه من عباده‏.‏

وأما الوجه الثاني فإن هذا الكلام يوهم قلوب عوام المريدين أن الولاية لا تطلب رأسًا، وأن المريد متى طلب من الله تعالى أن يرزقه الولاية أو الفتح أو المعرفة أو القرب أو الوصول أو نحوها، أو تشوف إلى شيء من ذلك فهو معلول السلوك، أو هالك مقطوع، وهذا غلط وجهل، كيف والعبد مأذون له أبدًا أن يسأل مولاه ويطلبه في حوائجه من أدناها كشراك النعل فإنه إن لم ييسره لم يتيسر إلى أعلاها كرضاه، فإذا طلب من مولاه أن يرزقه ما رزق أولياءه في الدنيا والآخرة فأي حَرَج عليه في ذلك إذا وقف على حدود الأدب‏؟‏ وإنما حذر الناس من العلل والصوارف، وذلك أن يكون الباعث له على الانتهاض إلى السلوك والاشتغال بالعبادة إنما هو حصول الولاية مثلًا، فإنه حينئذ يفوته الاخلاص في عبادته فيفسد أمره، ويكون ما يرجو من الولاية مثلًا شاغلًا لفكره وسره عن الله تعالى‏.‏

فأما من عرف الحق وأن العبد يعمل تعبدًا والمولي يعطي تفضلًا لا غير وانتهض على ذلك الوجه يعبد الله تعالى امتثالًا لأمره، وأداء لحق ربوبيته على باب مولاه وسيده ورجاء للنيل من مائدته الموضوعة للخيار فلا بأس عليه، ولا مذمة تلحقه، ولا علة تدخل عليه ما دام على هذه الحال‏.‏


نعم الناس في أمر الطلب والدعاء لا في هذه ولا في غيرها صنفان‏:‏ ‏"‏صنف‏"‏ يسلم ولا يطلب، ‏"‏وصنف يطلب‏"‏ وذلك ‏"‏بسبب‏"‏ اختلاف المشارب وتباين الشهادات، فمن أشهده الله تعالى كونه عبدًا مملوكًا مكفولًا بعين مولاه وفي حياطته لم يبق له دعاء ولا طلب، بل التوكل والتسليم وانتظار القسمة السابقة، وله في هذا مشارب، فقد يلاحظ حياطة المولى وكفالته فيستغني، وقد يلاحظ انبرام القسمة وأن الدعاء لا يزيد فيها ولا ينقص فيمسك، وقد يلاحظ علم الله تعالى وقدرته وجوده فيستحيي، إذ لا ينبه إلاّ غافل، ولا يستنهض إلاّ عاجز ولا يستعطف إلاّ بخيل، إلى غير هذا من الواردات، وقد يلاحظ إساءته وتقصيره في الخدمة فيستحيي أن يطلب، ومن أشهده الله تعالى ‏"‏كونه‏"‏ عبدًا فقيرًا محتاجًا إلى سيده لا يستغني عنه لحظة، وقد أذن له في رفع حوائجه إليه فليس إلاّ الدعاء والطلب، وله في ذلك أيضًا مشارب، فتارة يسترسل مع وصفه من الافتقار واللجأ إلى مولاه، وتارة يرى تعاطي ذلك وإظهاره هو اللائق بالعبودية، وتارة يلاحظ امتثال أمر الله تعالى حيث طلب من عباده أن يدعوه، وذلك كله من غير التفات إلى حاجة تقضى ولا ثمرة غير ما حصل له من التعبد والمناجاة والتذلل بين يدي الملك الجليل، وناهيك بذلك ثمرة ‏"‏مع‏"‏ ما يرجى أن يستتبعه ذلك من رضوان الله تعالى، وهو نهاية السول وغاية المأمول، وهذا كله لمعرفته بأن القسمة قد سبقت لا تزداد ولا تنقص، ومحال أن يكون الدعاء اللاحق، سببًا للعطاء السابق، فلم يبق إلاّ أن الدعاء عبادة وتأدب مع الرب تعالى، والرب يفعل ما يشاء ‏"‏ويحكم ما يريد‏"‏، وقد يلاحظ أن من جملة ما يقضى ترتب بروز العطاء على الدعاء، وأن الاشتغال بالدعاء سبب كسائر الأسباب فينتهض لإقامة الحكمة في تعاطي الأسباب وامتثال أمر الله تعالى في ذلك إذا أقيم ‏"‏فيه‏"‏ وهذا الوجه هو الذي يظهر من أحوال من يتحرى أوقات الاستجابة وأسبابها من الصالحين، والأوجه كلها حسنة لا يخرج المتلبّس بشيء منها عن الخصوصية، نسأل الله تعالى أن يمنحنا حسن الأدب بمنه‏.‏

ثم الداعي أيضًا له حالتان، لأنه إما أن يشهد حال نفسه من الإساءة والتقصير والخساسة الذاتية والذلة والمهانة فلا يدعو إلاّ بما يناسب ذلك من العفو والمغفرة والنجاة من النار والإقالة واللطف ونحو ذلك، وفي هذه الحالة قال القائل‏:‏ تجرأت البارحة فسألت الجنة، وقال الآخر‏:‏ سبحان الله متى خرجنا من النار حتى نطلب الجنة، وإما أن يشهد وصف ربه من الكرم والجود والفضل، أو يشهد أنه عبد للمالك العظيم، ويلاحظ نحو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا سَألْتُمْ اللهَ فَاسْتَعْظِمُوا المَسْألَةَ، فَإنَّ اللهَ لا يَتَعَاظَمُهُ شَيْء» فيدعو بما يناسب ذلك من الجنة والدرجة العلية، والرضوان والمعرفة، والمحبة والقرب والولاية، ونحو ذلك، ولا شك أن الحلة الأولى هي أنسبُ بالعبد في هذه الدار وأسلم له، ولكنه بيد الله تعالى يتصرف ويتلون بحسب سابق المشيئة‏.‏

وأما الحلاوة فمن جهة ما ذكرنا من التدريج، فإنا نود أن لو وجد المسرف حلاوة للطاعة وتبعها حتى يترك فسقه ويتمرن على العبادة، فعسى أن ينقله الله إلى حالة أخرى أرفع، وقد تكلمنا فيما لسنا من أهله وتعدينا طورنا، فنستغفر الله تعالى‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

واحد من الناس
واحد من الناس
كبار الزوار

بيانات العضو
تاريخ التسجيل : 11/01/2011
الجنسية : مصرى
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 2901

https://alkady.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى