عجائب النيل ومن عجائب النيل فرس البحر
صفحة 1 من اصل 1
عجائب النيل ومن عجائب النيل فرس البحر
عجائب النيل ومن عجائب النيل فرس البحر
قال عبد الله بن أحمد بن سليم الأسواني في كتاب أخبار النوبة: ومسافة ما بين دنقلة إلى أوّل بلد علوة أكثر مما بين دنقلة وأسوان وفي ذلك من القرى والضياع والجزائر والمواشي والنخل والشجر والمقل والزرع والكرم.
أضعاف ما في الجانب الذي يلي أرض الإسلام.وفي هذه الأماكن جزائر عظام مسيرة أيام فيها الحيات والوحوش والسباع ومفاوز يخاف فيها العطش وماء النيل ينعطف من هذه النواحي إلى مطلع الشمس وإلى مغربها مسافة أيام حتى يصير الصعيد كالمنحدر وهي الناحية التي تبلغ العطوف من النيل إلى المعدن المعروف بالشتكة وهي بلد معروف بشنقير ومنه يخرج القمري وفرس البحر يكثر في هذا الموضع.
وحدثني سيمون صاحب عهد علوة أنه أحصى في جزيرة سبعين دابة منها وهي من دواب الشطوط في خلق الفرس في غلظ الجاموس قصيرة القوائم لها خف وهي في ألوان الخيل بأعراف وآذان صغار كآذان الخيل وأعناقها كذلك وأذنابها مثل أذناب الجواميس ولها خرطوم عريض يظنّ الناظر إليها أنّ عليها مخلاة لها صهيل وأنياب لا يقوم حذاءها تمساح وتعترض المراكب عند الغضب فتغرّقها ورعيها في البرّ العشب وجلدها فيه متانة عظيمة يتخذ منه دبابيس انتهى.
وهو كفرس البرّ إلا أنه أكبر عرفًا وذنبًا وأحسن لونًا وحافره مشقوق كحافر البقر وجثته أكبر من الحمار بقليل وهو يأكل التمساح أكلًا ذريعًا ويقوى عليه قوّة ظاهرة وربما خرج من الماء ونزا على فرس البرّ فيتولد بينهما فرس في غاية الحسن.
واتفق أن بعض الناس نزل على طرف النيل ومعه حجرة فخرج من الماء فرس أدهم عليه نقط بيض فنزا على الحجرة فحملت منه وولدت مهرًا عجيب الصورة فطمع في مهر آخر.
فجاء بالحجرة والمهر إلى ذلك الموضع فخرج الفرس من الماء وشمّ المهر ساعة ثم وثب إلى الماء ومعه المهر فصار الرجل يتعهد ذلك المكان كثيرًا فلم يعد الفرس ولا المهر إليه.
قال المسعودي: وفي نيل مصر وأرضها عجائب كثيرة من الحيوانات فمن ذلك السمك المعروف بالرعاد والواحدة نحو الذراع إذا وقعت في شبكة الصياد ارتعدت يده وعضده فيعلم بوقوعها فيبادر إلى أخذها وإخراجها من شبكته ولو أمسكها بخشب أو قصب فعلت ذلك.
وقد ذكرها جالينوس أنها إن جعلت على رأس من به صداع شديد أو شقيقة وهي في الحياة هدأ من ساعته.
قال ابن البيطار عن جالينوس: هو الحيوان البحري الذي يحدث الخدر وزعم قوم أنه أدنى من رأس من يشتكي الصداع سكن صداعه وإن أدنى من مقعدة من انقلبت مقعدته أصلحها ولكن أنا جربت الأمرين جميعًا فلم أجد يفعل ولا واحدًا منهما ففكرت أني أدنيته من رأس المصدوع والحيوان ما هو حيّ لأنني ظننت أنه على هذه الحال يكون دواء يمكن أن يسكن الصداع بمنزلة الأدوية فوجدته ينفع ما دام حيًا.
قال ديسقوريدوس: هو سمكة بحرية مخدّرة إذا وضعت على الرأس الذي عرض له الصداع المزمن سكن شدّة وجعه وإذا احتمله ذو المقعدة التي تبرز إلى خارج أصلحها.
وقال يونس: الزيت الذي يطبخ فيه يسكن أوجاع المفاصل الحريفة إذا دهنت به.
قال ابن البيطار: رأيت بساحل مدينة مالقة من بلاد الأندلس سمكة عريضة لون ظاهرها لون رعاد مصر سواء وباطنها أبيض وفعلها في تخدير ماسكها كفعل رعاد مصر أو أشدّ إلا أنها لا تؤكل ألبتة.
وقال بعضهم: إذا علقت المرأة شيئًا من الرعاد عليها لم يطق زوجها البعد عنها وكذلك إن علق منها الرجل عليه لم تكد المرأة أن تفارقه.
والسقنقور: هو صنف يتوالد من السمك والتمساح فلا يشاكل السمك لأن له يدين ورجلين ولا يشاكل التمساح لأنّ ذنبه أجرد أملس عريض غير مضرّس وذنب التمساح سخيف مضرس ويتعالج بشحم السقنقورا للجماع ولا يكون بمكان إلا في النيل وفي نهر مهران من أرض الهند وقد بلغني أن أقوامًا شووها وأكلوا منها فماتوا كلهم في ساعة واحدة.
والسقنقور قال ابن سيناء: هو ورن يصاد من نيل مصر.
يقولون: إنه من نسل التمساح وأجود ما يصطاد في الربيع.
وقال آخر: إنه فرخ التمساح فإذا خرج من البيض فما قصد الماء صار تمساحًا وما فصد الرمل صار سقنقورًا.
وقال ابن البيطار: هو جنس من الجراد يحفف في الخريف إذا شرب منه وزن درهمين من المرضع الذي يلي كلاه بشراب أنهض الجماع وهو شديد الشبه بالورن.
يوجد بالرمال التي تلي نيل مصر في نواحي صعيدها وهو مما يسعى في البر ويدخل في الماء يعني النيل ولهذا قيل له: الورن المائيّ لشبهه به ولدخوله في الماء وهو يتولد من ذكر وأنثى ويوجد للذكر خصيتان كخصيتي الديك في خلقهما وموضعهما وإنانة تبيض فوق العشرين بيضة وتدفنها في الرمل وللذكر من السقنقور إحليلان وللأنثى فرجان والسقنقور يعض الأنسان ويطلب الماء فإن وجده دخل فيه وإن لم يجده بال وتمرّغ في بوله وإذا فعل ذلك مات المعضوض لوقته وسلم السقنقور فإن اتفق أن سبق المعضوض إلى الماء فدخله تبل دخول السقنقور الماء وتمرغه في بوله مات السقنقور لوقته وسلم المعضوض.
والأفضل الذكر منه والأبلغ في نفع الباه بل هو المخصوص بذلك دون الأنثى.
والمختار من أعضائه ما يلي أصل ذنبه ومحاذى سرته والوقت الذي يصاد فيه: الربيع فإنه يكون فيه هائجًا للسفاد فيكون في هذا الوقت أبلغ نفعًا فإذا أخذ ذكى في يوم صيده فإنه إن ترك حيًا زال شحمه وهزل لحمه وضعف فعله ثم يقطع رأسه وطرّف ذنبه من غير استئصال ويشق جوفه طولًا ويلقي ما فيه إلا كلاه وكيسه فإذا نظف حشي ملحا وخيط الشق وعلق منكوسًا في ظل معتدل الهواء حتى يجف ويؤمن فساده ثم يرفع في إناء متخرق للهواء كالسلال المضفورة من قضبان شجر الصفصاف والخوص ونحوه إلى وقت الحاجة.
ولحمه طريًا حار رطب والمجفف أشدّ حرارة وأقل رطوبة ولا يوافق استعماله من مزاجه حار يابس.
وإنما يوافق ذوي الأمزجة الباردة الرطبة وخاصة لحمه وشحمه.
إنهاض شهوة الجماع ويهيج الشبق ويقوّي الإتعاظ وينفع أمراض العصب الباردة وخاصة ما يلي سرته ويحاذي ذنبه وينفع مفردًا ومركبًا واستعماله مفردًا أبلغ والمقدار منه بعد تجفيفه من مثقال إلى ثلاثة مثاقيل بحسب السنّ والمزاج والبلد والوقت الحاضر يسحق ويذاب بشراب أو ماء العسل أو نقيع الزبيب أو يذرّ على صفرة بيض الدجاج التيمرشت ويتحسى وكذلك يفعل بلحمه إذا أخذ منه من درهم إلى درهمين وذرّ على صفرة البيض بمفرده أو مع مثله بزر جرجير مسحوق ولا يوجد السقنقور إلا في بلاد الفيوم خاصة وأكثر صيده في الأربعينات إذا اشتدّ وقال المسعوديّ: والفرس الذي يكون في نيل مصر إذا خرج من الماء وانتهى وطؤه إلى بعض المواضع من الأرض علم أهل مصر أن النيل يزيد إلى ذلك الموضع بعينه غير زائد عليه ولا مقصر عنه لا يتخلف ذلك عندهم لطول العادات والتجارب وفي ظهوره من الماء ضرر بأرباب الأرض والغلات لرعيه الزرع وذلك أنه يظهر من الماء في الليل فينتهي إلى موضع من الزرع ثم يولي عائدًا إلى الماء فيرعى في حال رجوعه من الموضع الذي انتهى إليه مسيره ولا يرعى من ذلك الذي قد رعاه شيئًا في ممره وإذا رعى ورد الماء وشرب ثم قذف ما في جوفه في مواضع شتى فينبت ذلك مرة ثانية وإذا كثر ذلك من فعله واتصل ضرره بأرباب الضياع طرحوا له من الترمس في الموضع الذي يعرف خروجه منه مكاكي كثيرة مبدرًا مبسوطًا فيكله ثم يعود إلى الماء فإذا شرب منه ربا الترمس في جوفه وانتفخ فينشق جوفه منه ويموت ويطفو على الماء ويقذف به إلى الساحل والموضع الذي يُرى فيه لا يُرى به تمساح وهو على صورة الفرس إلا أنّ حوافره وذنبه بخلاف ذلك وجبهته واسعة.
وقال المسبحي: إنّ الصنف المعروف بالبلطي من أصناف السمك أوّل ما عرف بنيل مصر في أيام الخليفة العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله - ولم يكن يعرف قبله في النيل وظهر في أيامه أيضًا سمك يعرف باللبيس وإنما سمي باللبيس لأنه يشبه البووي الذي بالبحر الملح فالتبس به ومن حيوان البحر: التمساح.
قال ابن البيطار: التمساح حيوان معروف يكون في الأنهار الكبار.
وفي النيل كثيرًا ويوجد في نهر مهران وقد يوجد في بلاد السودان وهو الورن النيليّ.
وقال ابن زهران: كل حيوان يحرك فكه الأسفل إذا أكل ما خلا التمساح فإنه يحرك فكه الأعلى دون الأسفل وشحم التمساح إذا عجن بالسمن وجعل فيه فتيلة وأسرج في نهر أو أجمة لم ينعق ضفادعها ما دامت تقد وإن طيف بجلد تمساح حول قرية ثم علق على سطح دهليز لم يقع البرد في تلك القرية وإذا عض التمساح إنسانًا فوضع على العضة شحم التمساح برأ من ساعته وإن لطخ بشحمه جبهة كبش نطاح نفر كل كبش يناطحه وهرب منه.
ومرارته يكتحل بها للبياض في العين فيذهبه وكبده ينجر بها المجنون فيبرأ وزبل التمساح يزيل البياض من العين الحديث والقديم وإن قلعت عيناه وهو حيّ وعلقت على من به جذام أوقفه ولم يزد عليه شيء وإن علق شيء من التي بجانب الأيمن رجل زاد في جماعه وعينه اليمنى لمن يشتكي عينه اليمنى وعينه اليسرى لمن يشتكي عينه اليسرى وشحمه إذا أذيب بدهن ورد نفع من وجع الصلب والكليتين وزاد في الباه وإذا أخذ دم التمساح وخلط به هليلج وأملج وطلي به على الوضح أذهبه وغيّر لونه وإذا طلي به على الجبهة والصدغين نفع من وجع الشقيقة وإذا أكل لحمه اسفيدباجًا سمن البدن النحيف وشحمه إذا قطر بعد أن يذاب في الأذن الوجعة نفعها وإن أدمن تقطيره في الأذن نفع من الصمم وإذا دهن به صاحب حمى الربع سكنت عنه ولحمه رديء الكيموس.
وقال المسعودي: وكذلك التمساح آفته من دويبة تكون في سواحل النيل وجزائره وهو أنّ التمساح لا دبر له وما يأكله يتكوّن في بطنه دودًا فإذا أذاه ذلك خرج إلى البرّ فاستلقى على قفاه فاغرًا فاه فينقض إليه طير الماء وقد اعتاد ذلك منه فيأكل ما يظهر من جوفه من ذلك الدود العظيم وتكون تلك الدويبة قد كمنت في الرمل فتثب إلى حلقه وتصير إلى جوفه وتخرج فيخبط بنفسه إلى الأرض ويطلب قعر النيل حتى تأتي الدويبة على حشو جوفه ثم تخرق جوفه وتخرج.
وربما قتل نفسه قبل أن تخرج فتخرج بعد موته وهذه الدويبة تكون نحو الذراع على صورة ابن عرس ذات قوائم شتى ومخالب.
ويقال: إن بجبال فسطاط مصر طلسم معمول بها وكان التمساح لا يستطيع القرب حوله بل كان إذا بلغ حدوده انقلب واستلقى على ظهره فيعبث به الصبيان إلى أن يجاوز نهاية المدينة ثم يعود مستويًا ويعود إلى طباعه ثم إن هذا الطلسم كسر فبطل فعله ويقال: إن التمساح يبيض كبيض الأوز وربما تولد فيه جرادين صغار ثم تكبر حتى يبلغ طولها عشرة أذرع وتزداد طولًا كلما عمرت والتمساح يرتعش ستين مرّة في حركة واحدة ومحل واحد وسنه اليسرى نافعة للنافض.
تقدمة المعرفة بحال النيل في كل سنة قال ابن رضوان في شرح الأربع: وقد يحتاج أمر النيل إلى شروط.
منها: أن تكون الأمطار متوالية في نواحي الجنوب قبل مدة وفي وقت مده ولذلك وجب أن يكون النيل متى كانت الزهرة وعطارد مقترنين في مدخل الصيف كثير الزيادة لرطوبة الهواء ومتى كان المريخ أو بعض المنازل في ناحية الجنوب في مدخل الربيع أو الصيف كان قليلًا لقلة الأمطار في تلك الناحية ومنها: أن تكون الرياح شمالية لتوقف جريه.
فأما الجنوبية: فإنها تسرع انحداره ولا تدعه يلبث فإذا علمت ما يكون في ناحية الجنوب من كثرة الأمطار أو قلتها وفي ناحية مصر من هبوب مصر في فصلي الربيع والصيف فقد علمت حال النيل كيف يكون وتعلم من حاله ما يعرض بمصر من الخصب والجدب.
وقال أبو سامر بن يونس المنجم عن بطليموس: إذا أردت أن تعلم مقدار النيل في الزيادة والنقصان فانظر حين تحل الشمس برج السرطان إلى الزهرة وعطارد والقمر فإن كانت أحوالها جيدة وهي برية من النحوس فالنيل يمتدّ وتبلغ الحاجة به وإن كانت أحوالها بخلاف ذلك وهي ضعيفة فانكس القول فإن ضعف بعضها وصلح البعض توسط الحال في النيل والضابط أن قوّة الثلاثة تدل على تمام النيل وضعفها على توسطه وانتحاسها أو احتراقها أو وقوعها في بعدها الأبعد من الأرض على النقص وإنه قليل جدًا إلا أن احتراق الزهرة في برج الأسد يستنزل الماء من الجنوب.
وقال أبو معشر: ينظر عند انتقال الشمس إلى برج السرطان للزهرة وعطارد والقمر فإن كانت في سيرها الأكبر فإن زيادة النيل عظيمة وإن كانت في سيرها الأوسط فاعرف كم أكثر مسيرها وكم أقله وأنسبه بحسب ما تراه وإن كانت بطيئة السير فزيادة النيل قليلة وإن اختلف مسير هذه الثلاثة فكان بعضها في مسيره الأكبر وبعضها بطيء السير فغلب أقواها وأمزج الدلالة وقل بحسب ذلك.
وقالت القبط: ينظر أوّل يوم من شهر برمودة ما الذي يوافقه من أيام الشهر العربيّ فما كان من الأيام فزد عليه خمسة وثمانين فما بلغ خذ سدسه فإنه يكون عدد مبلغ النيل من الأذرع في تلك السنة.
قالوا: ومن المعتبر أيضًا في أمر النيل أن تنظر اليوم الذي تفطر فيه النصارى اليعاقبة بمصر وما بقي من الشهر العربيّ فزد عليها أربعًا وثلاثين فما بلغ أسقطه اثني عشر فإن بقي بعد ذلك الإسقاط من العدد زيادة على اثني عشر فهو زيادة النيل من الأذرع في تلك السنة مع الإثني عشر وإن بقي اثني عشر فهي سنة رديئة.
قالوا: وإذا كان العاشر من الشهر العربيّ موافقًا لشهر أبيب والقمر في برج العقرب فإن كان مقارنًا لقلب العقرب كان النيل مقصرًا وإلا فهو جيد.
قالوا: وينظر أول يوم من بؤنة فإن هبت الريح شمالًا في بكرة النهار كان النيل عاليًا وإن هبت وسط النهار فإنه متوسط وإن هبت آخر النهار كان نيلًا قاصرًا وإن لم تهب لم يطلع تلك السنة.وقيل: يعتبر هكذا أول خميس من بؤنة.
ومن المعتبر الذي جرّبته أنا سنين وأخبرني بعض شيوخنا: أنه جرّبه وأخبره به من جرّبه فصح أن ينظر أوّل يوم من مسرى كم مبلغ النيل فزد عليه ثمانية أذرع فما بلغ فهو زيادة النيل في تلك السنة ومما اشتهر عند أهل مصر وجربته أيضًا فصح أن يؤخذ قبل عيد ميكائيل بيوم في وقت الظهر من الطين الذي مرّ عليه ماء النيل قطعة زنتها ستة عشر درهمًا سواء وترفع في إناء مغطى إلى بكرة يوم عيد ميكائيل وتوزن فما زاد على وزنها من الخراريب كان مبلغ النيل في تلك السنة بقدر عدد تلك الخراريب لكل خرّوبة ذراع ومن ذلك أخذ شيء من دقيق القمح وعجنه بماء النيل في إناء فخار وقد عمل من طين مرّ عليه النيل وتركه مغطى طول ليلة عيد ميكائيل فإذا وجد بكرة يوم العيد قد اختمر بنفسه كان النيل تامًّا وافيًا وإن وجده لم يختمر دل على قصور هذا النيل ثم ينظرون مع ذلك بكرة يوم عيد ميكائيل إلى الهواء فإن هبت طيابًا فهو نيل كبير وإن هبت غير طياب فهو نيل مقصر لا سيما إن هبت مريسيا فإنه يكون نيلًا غير كاف والشأن عندهم إنما هو في دلالة العلامات الثلاث على شيء واحد فأما إذا اختلف فالحكم لا يكاد يصح.
وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية وذكر أصحاب التجارب: أنه إذا تقدم فعمد إلى لوح وزرع عليه من كل زرع ونبات حتى إذا كانت الليلة الخامسة والعشرون من شهر تموز أحد شهور الروم وهي آخر أيام الباحور ثم وضع اللوح بارزًا لطلوع الكواكب وغروبها لا يحول بينه وبين السماء شيء فإن كل ما لا يزكو في تلك السنة من الزروع يصبح أصفر وما يصلح ريعه منها يبقى أخضر وكذلك كانت القبط تفعل ذلك وقد جرّبت أنا على ما أفادنيه بعض الكتاب أنه إذا حصل مطر ولو قل في شهر بابة ينظر ما ذلك اليوم من الشهر القبطيّ فإنه يبلغ سعر الويبة القمح تلك السنة من الدراهم بعدد ما مضى من أيام شهر بابة.
وأوّل ما جرّبت هذا أنه وقع مطر في بابة يوم الخميس الخامس عشر منها فبيعت الويبة تلك السنة بخمسة عشر درهمًا.
ذكر عيد الشهيد
ومما كان يعمل بمصر عيد الشهيد وكان من أنزه فرج مصر وهو اليوم الثامن من بشنس أحد شهور القبط ويزعمون أن النيل بمصر لا يزيد في كل سنة حتى يُلقي النصارى فيه تابوتًا من خشب فيه أصبع من أصابع أسلافهم الموتى.
ويكون ذلك اليوم عيدًا ترحل إليه النصارى من جميع القرى ويركبون فيه الخيل ويلعبون عليها ويخرج عامّة أهل القاهرة ومصر على اختلاف طبقاتهم وينصبون الخيم على شطوط النيل وفي الجزائر ولا يبقى مغن ولا مغنية ولا صاحب لهو ولا رب ملعوب ولا بغيّ ولا مخنث ولا ماجن ولا خليع ولا فاتك ولا فاسق إلا ويخرج لهذا العيد فيجتمع عالم عظيم لا يحصيهم إلا خالقهم.
وتصرف أموال لا تنحصر ويتجاهر هناك بما لا يحتمل من المعاصي والفسوق وتثور فتن وتقتل أناس ويباع من الخمر خاصة في ذلك اليوم بما ينيف على مائة ألف درهم فضة عنها خمسة آلاف دينار ذهبًا وباع نصرانيّ في يوم واحد بإثني عشر ألف درهم فضة من الخمر وكان اجتماع الناس لعيد الشهيد دائمًا بناحية شبرى من ضواحي القاهرة وكان اعتماد فلاحي شبرى دائمًا في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في عيد الشهيد.
ولم يزل الحال على ما ذكر من الاجتماع كذلك إلى أن كانت سنة اثنتين وسبعمائة والسلطان يومئذٍ بديار مصر: الملك الناصر محمد بن قلاوون والقائم بتدبير الدولة الأمير: ركن الدين بيبرس الجاشنكير وهو يومئذ أستًا دار السلطان والأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة بديار مصر فقام الأمير بيبرس في إبطال ذلك قيامًا عظيمًا وكان إليه أمور ديار مصر هو والأمير سلار والناصر تحت حجرهما لا يقدر على شبع بطنه إلا من تحت أيديهما فتقدم أمر الأمير بيبرس أن لا يرمي أصبع في النيل ولا يعمل له عيد وندب الحجاب ووالى القاهرة لمنع الناس من الاجتماع بشبرى على عادتهم وخرج البريد إلى سائر أعمال مصر ومعهم الكتب إلى الولاة بإجهار النداء وإعلانه في الأقاليم بأن لا يخرج أحد من النصارى ولا يحضر لعمل عيد الشهيد فشق ذلك على أقباط مصر كلهم من أظهر الإسلام منهم وزعم أنه مسلم ومن هو باق على نصرانيته ومشى بعضهم إلى بعض وكان منهم رجل يعرف: بالتاج بن سعيد الدولة يعاني الكتابة وهو يومئذ في خدمة الأمير بيبرس وقد احتوى على عقله واستولى على جميع أموره كما هي عادة ملوك مصر وأمرائها من الأتراك في الانقياد لكتابهم من القبط سواء منهم من أسرّ الكفر ومن جهر به.
وما زال الأقباط بالتاج إلى أن تحدث مع مخدومه الأمير بيبرس في ذلك وخيل له من تلف مال الخراج إذا بطل هذا العيد.
فإن أكثر خراج شبرى إنما يحصل من ذلك وقال له: متى لم يعمل العيد لم يطلع النيل أبدًا.ويخرب إقليم مصر لعدم طلوع النيل ونحو ذلك من هتف القول وتنميق المكر فثبت الله الأمير بيبرس وقوّاه حتى أعرض عن جميع ما زخرفه من القول واستمرّ على منع عمل العيد.
وقال للتاج: إن كان النيل لا يطلع إلا بهذا الأصبع فلا يطلع وإن كان الله سبحانه هو المتصرف فيه فنكذب النصارى فبطل العيد من تلك السنة ولم يزل منقطعًا إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
وعَمر الملك الناصر محمد بن قلاوون الجسر في بحر النيل ليرمي قوة التيار عن برّ القاهرة إلى ناحية الجيزة كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب فطاب الأمير يلبغا اليحياويّ والأمير الطنبغا المارديني من السلطان أن يخرجا إلى الصيد ويغيبا مدة فلم تطب نفسه بذلك لشدة غرامه بهما وتهتكه في محبتهما وأراد صرفهما عن السفر فقال لهما: نحن نعيد عمل عيد الشهيد فيكون تفرّجكما عليه أنزه من خروجكما إلى الصيد وكان قد قرب أوان وقت عيد الشهيد فرضيا منه بذلك وأشيع في الإقليم إعادة عمل عيد الشهيد فلما كان اليوم الذي كانت العادة بعمله فيه ركب الأمراء النيل في الشخاتير بغير حراريق واجتمع الناس من كل جهة وبرز أرباب الغناء وأصحاب اللهو والخلاعة فركبوا النيل وتجاهروا بما كانت عادتهم المجاهرة به من أنواع المنكرات وتوسع الأمراء في تنوعّ الأطعمة والحلاوات وغيرها توسعًا خرجوا فيه عن الحد في الكثرة البالغة وعمّ الناس منهم ما لا يمكن وصفه لكثرته واستمرّوا على ذلك ثلاثة أيام وكانت مدة انقطاع عمل عيد الشهيد منذ أبطله الأمير بيبرس إلى أن أعاده الملك الناصر ستًا وثلاثين سنة واستمرّ عمله في كل سنة بعد ذلك إلى أن كانت سنة خمس وخمسين وسبعمائة تحرك المسلمون على النصارى وعملت أوراق بما قد وقف من أراضي مصر على كنائس النصارى ودياراتهم.
وألزم كتاب الأمراء بتحرير ذلك وحمل الأوراق إلى ديوان الأحباس فلما تحرّرت الأوراق اشتملت على خمسة وعشرين ألف فدان كلها موقوفة على الديارات والكنائس فعرضت على أمراء الدولة القائمين بتدبير الدولة في أيام الملك الصالح: صالح بن محمد بن قلاوون وهم: الأمير شيخو العمري والأمير صرغتمش والأمير طاز فتقرّر الحال على أن ينعم بذلك على الأمراء زيادة على إقطاعاتهم وألزم النصارى بما يلزمهم من الصغار وهدمت لهم عدة كنائس كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر الكنائس فلما كان العشر الأخير من شهر رجب من السنة المذكورة خرج الحاجب والأمير علاء الدين عليّ بن الكورانيّ والي القاهرة إلى ناحية شبرى الخيام من ضواحي مصر فهدمت كنيسة النصارى وأخذ منها أصبع الشهيد في صندوق وأحضر إلى الملك الصالح وأحرق بين يديه في الميدان وذرى رماده في البحر حتى لا يأخذه النصارى فبطل عيد الشهيد من يومئذِ إلى هذا العهد وللّه الحمد والمنة.
ذكر الخلجان التي شقت من النيل اعلم أن النيل إذا انتهت زيادته فتحت منه خلجان وترع يتخرّق الماء فيها يمينًا وشمالًا إلى البلاد البعيدة عن مجرى النيل وأكثر الخلجان والترع والجسور والأخوار بالوجه البحريّ.
وأما الوجه القبليّ: وهو بلاد الصعيد فإن ذلك قليل فيه وقد ذهبت معالمه ودرست رسومه من هنالك.
والمشهور من الخلجان: خليج منجا وخليج منف وخليج المنهى وخليج أشموم طناح وخليج سردوس وخليج الإسكندرية وخليج دمياط وخليج القاهرة وبحر أبي المنجا والخليج الناصري ظاهر القاهرة.
قال ابن عبد الحكم عن أبي رهم السماعيّ قال: كانت مصر ذات قناطر وجسور بتقدير وتدبير حتى إن الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها فيحبسونه كيف شاءوا ويرسلونه كيف شاءوا فذلك قوله تعالى عما حكى عن قول فرعون: " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون " الزخرف 51 ولم يكن يومئذٍ في الأرض ملك أعظم من ملك مصر وكانت الجنات بحافتي النيل من أوّله إلى آخره في الجانبين معًا جميعًا مما بين أسوان إلى رشيد وسبع خلج: خليج الإسكندرية وخليج سخا وخليج دمياط وخليج منف وخليج الفيوم وخليج المنهي وخليج سردوس جنات متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء والزرع ما بين الجبلين من أوّل مصر إلى آخرها مما يبلغه الماء.
وكانت جميع أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعًا لما قدّروا ودبروا من قناطرها وخلجها وجسورها فذلك قوله تعالى: " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم " الدخان 26.
قال: والمقام الكريم: المنابر كان بها ألف منبر.
خليج سخا وخليج سخا: حفره ندارس بن صا ابن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح وهو: أحد ملوك القبط القدماء الذين ملكوا مصر في الدهر الأوّل.
قال ابن وصيف شاه: ندارس الملك أوّل من ملك الأحياز كلها بعد أبيه صا وصفا له ملك مصر وكان ندارس محتنكًا مجرّبًا ذا أيدٍ وقوّة ومعرفة بالأمور فأظهر العدل وأقام الهياكل وأهلها قيامًا حسنًا ودبر جميع الاحياز.
ويقال: إنه الذي حفر خليج سحا وارتفع مال البلد بعض عمالقة الشام فخرج إليه واستباحه ودخل فلسطين وقتل بها خلقًا وسبى بعض حكمائها وأسكنهم مصر وهابته الملوك وعلى رأس ثلاثين من ملكه طمع السودان من الزنج والنوبة في أرضه وعادوا وأفسدوا فجمع الجيوش من أعمال مصر وأعد المراكب ووجه قائدًا يقال له: فلوطس في ثلثمائة ألف وقائدًا آخر في مثلها ووجه في النيل ثلثمائة سفينة في كل سفينة كاهن يعمل أعجوبة من العجائب ثم خرج في جيوش كثيرة فلقي جمع السودان وكانوا في زهاء ألف ألف فهزمهم وقتل أكثرهم أبرح قتل وأسر منهم خلقًا وتبعتهم جيوشه حتى وصلوا إلى أرض الفيلة من بلاد الزنج فأخذوا منها عدّة ومن النمور والوحوش وساقوها إلى مصر فذللها وعمل على حدود بلده منارًا وزبر عليه مسيره وظفره الوقت الذي سار فيه ومات بمصر فدفن في ناووس نقل إليه شيئًا كثيرًا من أصنام الكواكب ومن الذهب والجوهر والصيغة والتماثيل وزبر عليه اسمه وتاريخ هلاكه وجعل له طلسمات تمنع منه وعهد إلى ابنه ماليق بن ندارس.
خليج سردوس: حفره هامان.
قال ابن وصيف شاه طلما بن قومس الملك: جلس على سرير الملك وحاز جميع ما كان في خزائنهم وهو الذي تذكر القبط أنه فرعون موسى.
فأما أهل الأثر فيزعمون أنه الوليد بن مصعب وأنه من العمالقة وذكروا أن الفراعنة سبعة وكان طلما فيما حكي عنه: قصيرًا طويل اللحية أشهل العينين صغير العين اليسرى في جبينه شامة وكان أعرج.
وزعم قوم: أنه من القبط ونسب أهل بيته مشهور عندهم.
وذكر آخرون: أنه دخل منف على أتان عليها نطرون جاء ليبيعه وكانوا قد اضطربوا في تولية الملك فرضوا أن يملكوا عليهم أوّل من يطرأ من الناس فلما رأوه ملكوه عليهم ولما جلس في الملك بذل الأموال وقرب من أطاعه وقتل من خالفه فاعتدل أمره واستخلف هامان وكان يقرب منه في نسبه وأثار بعض الكنوز وصرفها في بناء المدائن والعمارات وحفر خلجانًا كثيرة.
ويقال: إنه الذي حفر خليج سردوس وكان كلما عرّجه إلى قرية من قرى الحوف حمل إليه أهلها مالًا حتى اجتمع من ذلك مال كثير فأمر بردّه على أهله.
وقال ابن عبد الحكم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما: أن فرعون استعمل هامان على حفر خليج سردوس فلما ابتدأ حفره أتاه أهل كل قرية يسألونه أن يجري الخليج تحت قريتهم ويعطونه مالًا قال: وكان يذهب به إلى هذه القرية من نحو الشرق ثم يرده إلى قرية من نحو دبر القبلة ثم يرده إلى قرية في الغرب ثم يرده إلى أهل قرية في القبلة ويأخذ من أهل كل قرية مالًا حتى اجتمع له من ذلك مائة ألف دينار فأتى بذلك يحمله إلى فرعون فسأله عن ذلك فأخبره بما فعل في حفره فقال له فرعون: ويحك إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عباده ويفيض عليهم ولا يرغب فيما بأيديهم رد.
على أهل كل قرية ما أخذت منهم فرده كله على أهله.
قال: فلا يعلم بمصر خليج أكثر انعطافًا منه لما فعل هامان في حفره كان هامان نبطيًا.
قال عبد الله بن أحمد بن سليم الأسواني في كتاب أخبار النوبة: ومسافة ما بين دنقلة إلى أوّل بلد علوة أكثر مما بين دنقلة وأسوان وفي ذلك من القرى والضياع والجزائر والمواشي والنخل والشجر والمقل والزرع والكرم.
أضعاف ما في الجانب الذي يلي أرض الإسلام.وفي هذه الأماكن جزائر عظام مسيرة أيام فيها الحيات والوحوش والسباع ومفاوز يخاف فيها العطش وماء النيل ينعطف من هذه النواحي إلى مطلع الشمس وإلى مغربها مسافة أيام حتى يصير الصعيد كالمنحدر وهي الناحية التي تبلغ العطوف من النيل إلى المعدن المعروف بالشتكة وهي بلد معروف بشنقير ومنه يخرج القمري وفرس البحر يكثر في هذا الموضع.
وحدثني سيمون صاحب عهد علوة أنه أحصى في جزيرة سبعين دابة منها وهي من دواب الشطوط في خلق الفرس في غلظ الجاموس قصيرة القوائم لها خف وهي في ألوان الخيل بأعراف وآذان صغار كآذان الخيل وأعناقها كذلك وأذنابها مثل أذناب الجواميس ولها خرطوم عريض يظنّ الناظر إليها أنّ عليها مخلاة لها صهيل وأنياب لا يقوم حذاءها تمساح وتعترض المراكب عند الغضب فتغرّقها ورعيها في البرّ العشب وجلدها فيه متانة عظيمة يتخذ منه دبابيس انتهى.
وهو كفرس البرّ إلا أنه أكبر عرفًا وذنبًا وأحسن لونًا وحافره مشقوق كحافر البقر وجثته أكبر من الحمار بقليل وهو يأكل التمساح أكلًا ذريعًا ويقوى عليه قوّة ظاهرة وربما خرج من الماء ونزا على فرس البرّ فيتولد بينهما فرس في غاية الحسن.
واتفق أن بعض الناس نزل على طرف النيل ومعه حجرة فخرج من الماء فرس أدهم عليه نقط بيض فنزا على الحجرة فحملت منه وولدت مهرًا عجيب الصورة فطمع في مهر آخر.
فجاء بالحجرة والمهر إلى ذلك الموضع فخرج الفرس من الماء وشمّ المهر ساعة ثم وثب إلى الماء ومعه المهر فصار الرجل يتعهد ذلك المكان كثيرًا فلم يعد الفرس ولا المهر إليه.
قال المسعودي: وفي نيل مصر وأرضها عجائب كثيرة من الحيوانات فمن ذلك السمك المعروف بالرعاد والواحدة نحو الذراع إذا وقعت في شبكة الصياد ارتعدت يده وعضده فيعلم بوقوعها فيبادر إلى أخذها وإخراجها من شبكته ولو أمسكها بخشب أو قصب فعلت ذلك.
وقد ذكرها جالينوس أنها إن جعلت على رأس من به صداع شديد أو شقيقة وهي في الحياة هدأ من ساعته.
قال ابن البيطار عن جالينوس: هو الحيوان البحري الذي يحدث الخدر وزعم قوم أنه أدنى من رأس من يشتكي الصداع سكن صداعه وإن أدنى من مقعدة من انقلبت مقعدته أصلحها ولكن أنا جربت الأمرين جميعًا فلم أجد يفعل ولا واحدًا منهما ففكرت أني أدنيته من رأس المصدوع والحيوان ما هو حيّ لأنني ظننت أنه على هذه الحال يكون دواء يمكن أن يسكن الصداع بمنزلة الأدوية فوجدته ينفع ما دام حيًا.
قال ديسقوريدوس: هو سمكة بحرية مخدّرة إذا وضعت على الرأس الذي عرض له الصداع المزمن سكن شدّة وجعه وإذا احتمله ذو المقعدة التي تبرز إلى خارج أصلحها.
وقال يونس: الزيت الذي يطبخ فيه يسكن أوجاع المفاصل الحريفة إذا دهنت به.
قال ابن البيطار: رأيت بساحل مدينة مالقة من بلاد الأندلس سمكة عريضة لون ظاهرها لون رعاد مصر سواء وباطنها أبيض وفعلها في تخدير ماسكها كفعل رعاد مصر أو أشدّ إلا أنها لا تؤكل ألبتة.
وقال بعضهم: إذا علقت المرأة شيئًا من الرعاد عليها لم يطق زوجها البعد عنها وكذلك إن علق منها الرجل عليه لم تكد المرأة أن تفارقه.
والسقنقور: هو صنف يتوالد من السمك والتمساح فلا يشاكل السمك لأن له يدين ورجلين ولا يشاكل التمساح لأنّ ذنبه أجرد أملس عريض غير مضرّس وذنب التمساح سخيف مضرس ويتعالج بشحم السقنقورا للجماع ولا يكون بمكان إلا في النيل وفي نهر مهران من أرض الهند وقد بلغني أن أقوامًا شووها وأكلوا منها فماتوا كلهم في ساعة واحدة.
والسقنقور قال ابن سيناء: هو ورن يصاد من نيل مصر.
يقولون: إنه من نسل التمساح وأجود ما يصطاد في الربيع.
وقال آخر: إنه فرخ التمساح فإذا خرج من البيض فما قصد الماء صار تمساحًا وما فصد الرمل صار سقنقورًا.
وقال ابن البيطار: هو جنس من الجراد يحفف في الخريف إذا شرب منه وزن درهمين من المرضع الذي يلي كلاه بشراب أنهض الجماع وهو شديد الشبه بالورن.
يوجد بالرمال التي تلي نيل مصر في نواحي صعيدها وهو مما يسعى في البر ويدخل في الماء يعني النيل ولهذا قيل له: الورن المائيّ لشبهه به ولدخوله في الماء وهو يتولد من ذكر وأنثى ويوجد للذكر خصيتان كخصيتي الديك في خلقهما وموضعهما وإنانة تبيض فوق العشرين بيضة وتدفنها في الرمل وللذكر من السقنقور إحليلان وللأنثى فرجان والسقنقور يعض الأنسان ويطلب الماء فإن وجده دخل فيه وإن لم يجده بال وتمرّغ في بوله وإذا فعل ذلك مات المعضوض لوقته وسلم السقنقور فإن اتفق أن سبق المعضوض إلى الماء فدخله تبل دخول السقنقور الماء وتمرغه في بوله مات السقنقور لوقته وسلم المعضوض.
والأفضل الذكر منه والأبلغ في نفع الباه بل هو المخصوص بذلك دون الأنثى.
والمختار من أعضائه ما يلي أصل ذنبه ومحاذى سرته والوقت الذي يصاد فيه: الربيع فإنه يكون فيه هائجًا للسفاد فيكون في هذا الوقت أبلغ نفعًا فإذا أخذ ذكى في يوم صيده فإنه إن ترك حيًا زال شحمه وهزل لحمه وضعف فعله ثم يقطع رأسه وطرّف ذنبه من غير استئصال ويشق جوفه طولًا ويلقي ما فيه إلا كلاه وكيسه فإذا نظف حشي ملحا وخيط الشق وعلق منكوسًا في ظل معتدل الهواء حتى يجف ويؤمن فساده ثم يرفع في إناء متخرق للهواء كالسلال المضفورة من قضبان شجر الصفصاف والخوص ونحوه إلى وقت الحاجة.
ولحمه طريًا حار رطب والمجفف أشدّ حرارة وأقل رطوبة ولا يوافق استعماله من مزاجه حار يابس.
وإنما يوافق ذوي الأمزجة الباردة الرطبة وخاصة لحمه وشحمه.
إنهاض شهوة الجماع ويهيج الشبق ويقوّي الإتعاظ وينفع أمراض العصب الباردة وخاصة ما يلي سرته ويحاذي ذنبه وينفع مفردًا ومركبًا واستعماله مفردًا أبلغ والمقدار منه بعد تجفيفه من مثقال إلى ثلاثة مثاقيل بحسب السنّ والمزاج والبلد والوقت الحاضر يسحق ويذاب بشراب أو ماء العسل أو نقيع الزبيب أو يذرّ على صفرة بيض الدجاج التيمرشت ويتحسى وكذلك يفعل بلحمه إذا أخذ منه من درهم إلى درهمين وذرّ على صفرة البيض بمفرده أو مع مثله بزر جرجير مسحوق ولا يوجد السقنقور إلا في بلاد الفيوم خاصة وأكثر صيده في الأربعينات إذا اشتدّ وقال المسعوديّ: والفرس الذي يكون في نيل مصر إذا خرج من الماء وانتهى وطؤه إلى بعض المواضع من الأرض علم أهل مصر أن النيل يزيد إلى ذلك الموضع بعينه غير زائد عليه ولا مقصر عنه لا يتخلف ذلك عندهم لطول العادات والتجارب وفي ظهوره من الماء ضرر بأرباب الأرض والغلات لرعيه الزرع وذلك أنه يظهر من الماء في الليل فينتهي إلى موضع من الزرع ثم يولي عائدًا إلى الماء فيرعى في حال رجوعه من الموضع الذي انتهى إليه مسيره ولا يرعى من ذلك الذي قد رعاه شيئًا في ممره وإذا رعى ورد الماء وشرب ثم قذف ما في جوفه في مواضع شتى فينبت ذلك مرة ثانية وإذا كثر ذلك من فعله واتصل ضرره بأرباب الضياع طرحوا له من الترمس في الموضع الذي يعرف خروجه منه مكاكي كثيرة مبدرًا مبسوطًا فيكله ثم يعود إلى الماء فإذا شرب منه ربا الترمس في جوفه وانتفخ فينشق جوفه منه ويموت ويطفو على الماء ويقذف به إلى الساحل والموضع الذي يُرى فيه لا يُرى به تمساح وهو على صورة الفرس إلا أنّ حوافره وذنبه بخلاف ذلك وجبهته واسعة.
وقال المسبحي: إنّ الصنف المعروف بالبلطي من أصناف السمك أوّل ما عرف بنيل مصر في أيام الخليفة العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله - ولم يكن يعرف قبله في النيل وظهر في أيامه أيضًا سمك يعرف باللبيس وإنما سمي باللبيس لأنه يشبه البووي الذي بالبحر الملح فالتبس به ومن حيوان البحر: التمساح.
قال ابن البيطار: التمساح حيوان معروف يكون في الأنهار الكبار.
وفي النيل كثيرًا ويوجد في نهر مهران وقد يوجد في بلاد السودان وهو الورن النيليّ.
وقال ابن زهران: كل حيوان يحرك فكه الأسفل إذا أكل ما خلا التمساح فإنه يحرك فكه الأعلى دون الأسفل وشحم التمساح إذا عجن بالسمن وجعل فيه فتيلة وأسرج في نهر أو أجمة لم ينعق ضفادعها ما دامت تقد وإن طيف بجلد تمساح حول قرية ثم علق على سطح دهليز لم يقع البرد في تلك القرية وإذا عض التمساح إنسانًا فوضع على العضة شحم التمساح برأ من ساعته وإن لطخ بشحمه جبهة كبش نطاح نفر كل كبش يناطحه وهرب منه.
ومرارته يكتحل بها للبياض في العين فيذهبه وكبده ينجر بها المجنون فيبرأ وزبل التمساح يزيل البياض من العين الحديث والقديم وإن قلعت عيناه وهو حيّ وعلقت على من به جذام أوقفه ولم يزد عليه شيء وإن علق شيء من التي بجانب الأيمن رجل زاد في جماعه وعينه اليمنى لمن يشتكي عينه اليمنى وعينه اليسرى لمن يشتكي عينه اليسرى وشحمه إذا أذيب بدهن ورد نفع من وجع الصلب والكليتين وزاد في الباه وإذا أخذ دم التمساح وخلط به هليلج وأملج وطلي به على الوضح أذهبه وغيّر لونه وإذا طلي به على الجبهة والصدغين نفع من وجع الشقيقة وإذا أكل لحمه اسفيدباجًا سمن البدن النحيف وشحمه إذا قطر بعد أن يذاب في الأذن الوجعة نفعها وإن أدمن تقطيره في الأذن نفع من الصمم وإذا دهن به صاحب حمى الربع سكنت عنه ولحمه رديء الكيموس.
وقال المسعودي: وكذلك التمساح آفته من دويبة تكون في سواحل النيل وجزائره وهو أنّ التمساح لا دبر له وما يأكله يتكوّن في بطنه دودًا فإذا أذاه ذلك خرج إلى البرّ فاستلقى على قفاه فاغرًا فاه فينقض إليه طير الماء وقد اعتاد ذلك منه فيأكل ما يظهر من جوفه من ذلك الدود العظيم وتكون تلك الدويبة قد كمنت في الرمل فتثب إلى حلقه وتصير إلى جوفه وتخرج فيخبط بنفسه إلى الأرض ويطلب قعر النيل حتى تأتي الدويبة على حشو جوفه ثم تخرق جوفه وتخرج.
وربما قتل نفسه قبل أن تخرج فتخرج بعد موته وهذه الدويبة تكون نحو الذراع على صورة ابن عرس ذات قوائم شتى ومخالب.
ويقال: إن بجبال فسطاط مصر طلسم معمول بها وكان التمساح لا يستطيع القرب حوله بل كان إذا بلغ حدوده انقلب واستلقى على ظهره فيعبث به الصبيان إلى أن يجاوز نهاية المدينة ثم يعود مستويًا ويعود إلى طباعه ثم إن هذا الطلسم كسر فبطل فعله ويقال: إن التمساح يبيض كبيض الأوز وربما تولد فيه جرادين صغار ثم تكبر حتى يبلغ طولها عشرة أذرع وتزداد طولًا كلما عمرت والتمساح يرتعش ستين مرّة في حركة واحدة ومحل واحد وسنه اليسرى نافعة للنافض.
تقدمة المعرفة بحال النيل في كل سنة قال ابن رضوان في شرح الأربع: وقد يحتاج أمر النيل إلى شروط.
منها: أن تكون الأمطار متوالية في نواحي الجنوب قبل مدة وفي وقت مده ولذلك وجب أن يكون النيل متى كانت الزهرة وعطارد مقترنين في مدخل الصيف كثير الزيادة لرطوبة الهواء ومتى كان المريخ أو بعض المنازل في ناحية الجنوب في مدخل الربيع أو الصيف كان قليلًا لقلة الأمطار في تلك الناحية ومنها: أن تكون الرياح شمالية لتوقف جريه.
فأما الجنوبية: فإنها تسرع انحداره ولا تدعه يلبث فإذا علمت ما يكون في ناحية الجنوب من كثرة الأمطار أو قلتها وفي ناحية مصر من هبوب مصر في فصلي الربيع والصيف فقد علمت حال النيل كيف يكون وتعلم من حاله ما يعرض بمصر من الخصب والجدب.
وقال أبو سامر بن يونس المنجم عن بطليموس: إذا أردت أن تعلم مقدار النيل في الزيادة والنقصان فانظر حين تحل الشمس برج السرطان إلى الزهرة وعطارد والقمر فإن كانت أحوالها جيدة وهي برية من النحوس فالنيل يمتدّ وتبلغ الحاجة به وإن كانت أحوالها بخلاف ذلك وهي ضعيفة فانكس القول فإن ضعف بعضها وصلح البعض توسط الحال في النيل والضابط أن قوّة الثلاثة تدل على تمام النيل وضعفها على توسطه وانتحاسها أو احتراقها أو وقوعها في بعدها الأبعد من الأرض على النقص وإنه قليل جدًا إلا أن احتراق الزهرة في برج الأسد يستنزل الماء من الجنوب.
وقال أبو معشر: ينظر عند انتقال الشمس إلى برج السرطان للزهرة وعطارد والقمر فإن كانت في سيرها الأكبر فإن زيادة النيل عظيمة وإن كانت في سيرها الأوسط فاعرف كم أكثر مسيرها وكم أقله وأنسبه بحسب ما تراه وإن كانت بطيئة السير فزيادة النيل قليلة وإن اختلف مسير هذه الثلاثة فكان بعضها في مسيره الأكبر وبعضها بطيء السير فغلب أقواها وأمزج الدلالة وقل بحسب ذلك.
وقالت القبط: ينظر أوّل يوم من شهر برمودة ما الذي يوافقه من أيام الشهر العربيّ فما كان من الأيام فزد عليه خمسة وثمانين فما بلغ خذ سدسه فإنه يكون عدد مبلغ النيل من الأذرع في تلك السنة.
قالوا: ومن المعتبر أيضًا في أمر النيل أن تنظر اليوم الذي تفطر فيه النصارى اليعاقبة بمصر وما بقي من الشهر العربيّ فزد عليها أربعًا وثلاثين فما بلغ أسقطه اثني عشر فإن بقي بعد ذلك الإسقاط من العدد زيادة على اثني عشر فهو زيادة النيل من الأذرع في تلك السنة مع الإثني عشر وإن بقي اثني عشر فهي سنة رديئة.
قالوا: وإذا كان العاشر من الشهر العربيّ موافقًا لشهر أبيب والقمر في برج العقرب فإن كان مقارنًا لقلب العقرب كان النيل مقصرًا وإلا فهو جيد.
قالوا: وينظر أول يوم من بؤنة فإن هبت الريح شمالًا في بكرة النهار كان النيل عاليًا وإن هبت وسط النهار فإنه متوسط وإن هبت آخر النهار كان نيلًا قاصرًا وإن لم تهب لم يطلع تلك السنة.وقيل: يعتبر هكذا أول خميس من بؤنة.
ومن المعتبر الذي جرّبته أنا سنين وأخبرني بعض شيوخنا: أنه جرّبه وأخبره به من جرّبه فصح أن ينظر أوّل يوم من مسرى كم مبلغ النيل فزد عليه ثمانية أذرع فما بلغ فهو زيادة النيل في تلك السنة ومما اشتهر عند أهل مصر وجربته أيضًا فصح أن يؤخذ قبل عيد ميكائيل بيوم في وقت الظهر من الطين الذي مرّ عليه ماء النيل قطعة زنتها ستة عشر درهمًا سواء وترفع في إناء مغطى إلى بكرة يوم عيد ميكائيل وتوزن فما زاد على وزنها من الخراريب كان مبلغ النيل في تلك السنة بقدر عدد تلك الخراريب لكل خرّوبة ذراع ومن ذلك أخذ شيء من دقيق القمح وعجنه بماء النيل في إناء فخار وقد عمل من طين مرّ عليه النيل وتركه مغطى طول ليلة عيد ميكائيل فإذا وجد بكرة يوم العيد قد اختمر بنفسه كان النيل تامًّا وافيًا وإن وجده لم يختمر دل على قصور هذا النيل ثم ينظرون مع ذلك بكرة يوم عيد ميكائيل إلى الهواء فإن هبت طيابًا فهو نيل كبير وإن هبت غير طياب فهو نيل مقصر لا سيما إن هبت مريسيا فإنه يكون نيلًا غير كاف والشأن عندهم إنما هو في دلالة العلامات الثلاث على شيء واحد فأما إذا اختلف فالحكم لا يكاد يصح.
وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية وذكر أصحاب التجارب: أنه إذا تقدم فعمد إلى لوح وزرع عليه من كل زرع ونبات حتى إذا كانت الليلة الخامسة والعشرون من شهر تموز أحد شهور الروم وهي آخر أيام الباحور ثم وضع اللوح بارزًا لطلوع الكواكب وغروبها لا يحول بينه وبين السماء شيء فإن كل ما لا يزكو في تلك السنة من الزروع يصبح أصفر وما يصلح ريعه منها يبقى أخضر وكذلك كانت القبط تفعل ذلك وقد جرّبت أنا على ما أفادنيه بعض الكتاب أنه إذا حصل مطر ولو قل في شهر بابة ينظر ما ذلك اليوم من الشهر القبطيّ فإنه يبلغ سعر الويبة القمح تلك السنة من الدراهم بعدد ما مضى من أيام شهر بابة.
وأوّل ما جرّبت هذا أنه وقع مطر في بابة يوم الخميس الخامس عشر منها فبيعت الويبة تلك السنة بخمسة عشر درهمًا.
ذكر عيد الشهيد
ومما كان يعمل بمصر عيد الشهيد وكان من أنزه فرج مصر وهو اليوم الثامن من بشنس أحد شهور القبط ويزعمون أن النيل بمصر لا يزيد في كل سنة حتى يُلقي النصارى فيه تابوتًا من خشب فيه أصبع من أصابع أسلافهم الموتى.
ويكون ذلك اليوم عيدًا ترحل إليه النصارى من جميع القرى ويركبون فيه الخيل ويلعبون عليها ويخرج عامّة أهل القاهرة ومصر على اختلاف طبقاتهم وينصبون الخيم على شطوط النيل وفي الجزائر ولا يبقى مغن ولا مغنية ولا صاحب لهو ولا رب ملعوب ولا بغيّ ولا مخنث ولا ماجن ولا خليع ولا فاتك ولا فاسق إلا ويخرج لهذا العيد فيجتمع عالم عظيم لا يحصيهم إلا خالقهم.
وتصرف أموال لا تنحصر ويتجاهر هناك بما لا يحتمل من المعاصي والفسوق وتثور فتن وتقتل أناس ويباع من الخمر خاصة في ذلك اليوم بما ينيف على مائة ألف درهم فضة عنها خمسة آلاف دينار ذهبًا وباع نصرانيّ في يوم واحد بإثني عشر ألف درهم فضة من الخمر وكان اجتماع الناس لعيد الشهيد دائمًا بناحية شبرى من ضواحي القاهرة وكان اعتماد فلاحي شبرى دائمًا في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في عيد الشهيد.
ولم يزل الحال على ما ذكر من الاجتماع كذلك إلى أن كانت سنة اثنتين وسبعمائة والسلطان يومئذٍ بديار مصر: الملك الناصر محمد بن قلاوون والقائم بتدبير الدولة الأمير: ركن الدين بيبرس الجاشنكير وهو يومئذ أستًا دار السلطان والأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة بديار مصر فقام الأمير بيبرس في إبطال ذلك قيامًا عظيمًا وكان إليه أمور ديار مصر هو والأمير سلار والناصر تحت حجرهما لا يقدر على شبع بطنه إلا من تحت أيديهما فتقدم أمر الأمير بيبرس أن لا يرمي أصبع في النيل ولا يعمل له عيد وندب الحجاب ووالى القاهرة لمنع الناس من الاجتماع بشبرى على عادتهم وخرج البريد إلى سائر أعمال مصر ومعهم الكتب إلى الولاة بإجهار النداء وإعلانه في الأقاليم بأن لا يخرج أحد من النصارى ولا يحضر لعمل عيد الشهيد فشق ذلك على أقباط مصر كلهم من أظهر الإسلام منهم وزعم أنه مسلم ومن هو باق على نصرانيته ومشى بعضهم إلى بعض وكان منهم رجل يعرف: بالتاج بن سعيد الدولة يعاني الكتابة وهو يومئذ في خدمة الأمير بيبرس وقد احتوى على عقله واستولى على جميع أموره كما هي عادة ملوك مصر وأمرائها من الأتراك في الانقياد لكتابهم من القبط سواء منهم من أسرّ الكفر ومن جهر به.
وما زال الأقباط بالتاج إلى أن تحدث مع مخدومه الأمير بيبرس في ذلك وخيل له من تلف مال الخراج إذا بطل هذا العيد.
فإن أكثر خراج شبرى إنما يحصل من ذلك وقال له: متى لم يعمل العيد لم يطلع النيل أبدًا.ويخرب إقليم مصر لعدم طلوع النيل ونحو ذلك من هتف القول وتنميق المكر فثبت الله الأمير بيبرس وقوّاه حتى أعرض عن جميع ما زخرفه من القول واستمرّ على منع عمل العيد.
وقال للتاج: إن كان النيل لا يطلع إلا بهذا الأصبع فلا يطلع وإن كان الله سبحانه هو المتصرف فيه فنكذب النصارى فبطل العيد من تلك السنة ولم يزل منقطعًا إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
وعَمر الملك الناصر محمد بن قلاوون الجسر في بحر النيل ليرمي قوة التيار عن برّ القاهرة إلى ناحية الجيزة كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب فطاب الأمير يلبغا اليحياويّ والأمير الطنبغا المارديني من السلطان أن يخرجا إلى الصيد ويغيبا مدة فلم تطب نفسه بذلك لشدة غرامه بهما وتهتكه في محبتهما وأراد صرفهما عن السفر فقال لهما: نحن نعيد عمل عيد الشهيد فيكون تفرّجكما عليه أنزه من خروجكما إلى الصيد وكان قد قرب أوان وقت عيد الشهيد فرضيا منه بذلك وأشيع في الإقليم إعادة عمل عيد الشهيد فلما كان اليوم الذي كانت العادة بعمله فيه ركب الأمراء النيل في الشخاتير بغير حراريق واجتمع الناس من كل جهة وبرز أرباب الغناء وأصحاب اللهو والخلاعة فركبوا النيل وتجاهروا بما كانت عادتهم المجاهرة به من أنواع المنكرات وتوسع الأمراء في تنوعّ الأطعمة والحلاوات وغيرها توسعًا خرجوا فيه عن الحد في الكثرة البالغة وعمّ الناس منهم ما لا يمكن وصفه لكثرته واستمرّوا على ذلك ثلاثة أيام وكانت مدة انقطاع عمل عيد الشهيد منذ أبطله الأمير بيبرس إلى أن أعاده الملك الناصر ستًا وثلاثين سنة واستمرّ عمله في كل سنة بعد ذلك إلى أن كانت سنة خمس وخمسين وسبعمائة تحرك المسلمون على النصارى وعملت أوراق بما قد وقف من أراضي مصر على كنائس النصارى ودياراتهم.
وألزم كتاب الأمراء بتحرير ذلك وحمل الأوراق إلى ديوان الأحباس فلما تحرّرت الأوراق اشتملت على خمسة وعشرين ألف فدان كلها موقوفة على الديارات والكنائس فعرضت على أمراء الدولة القائمين بتدبير الدولة في أيام الملك الصالح: صالح بن محمد بن قلاوون وهم: الأمير شيخو العمري والأمير صرغتمش والأمير طاز فتقرّر الحال على أن ينعم بذلك على الأمراء زيادة على إقطاعاتهم وألزم النصارى بما يلزمهم من الصغار وهدمت لهم عدة كنائس كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر الكنائس فلما كان العشر الأخير من شهر رجب من السنة المذكورة خرج الحاجب والأمير علاء الدين عليّ بن الكورانيّ والي القاهرة إلى ناحية شبرى الخيام من ضواحي مصر فهدمت كنيسة النصارى وأخذ منها أصبع الشهيد في صندوق وأحضر إلى الملك الصالح وأحرق بين يديه في الميدان وذرى رماده في البحر حتى لا يأخذه النصارى فبطل عيد الشهيد من يومئذِ إلى هذا العهد وللّه الحمد والمنة.
ذكر الخلجان التي شقت من النيل اعلم أن النيل إذا انتهت زيادته فتحت منه خلجان وترع يتخرّق الماء فيها يمينًا وشمالًا إلى البلاد البعيدة عن مجرى النيل وأكثر الخلجان والترع والجسور والأخوار بالوجه البحريّ.
وأما الوجه القبليّ: وهو بلاد الصعيد فإن ذلك قليل فيه وقد ذهبت معالمه ودرست رسومه من هنالك.
والمشهور من الخلجان: خليج منجا وخليج منف وخليج المنهى وخليج أشموم طناح وخليج سردوس وخليج الإسكندرية وخليج دمياط وخليج القاهرة وبحر أبي المنجا والخليج الناصري ظاهر القاهرة.
قال ابن عبد الحكم عن أبي رهم السماعيّ قال: كانت مصر ذات قناطر وجسور بتقدير وتدبير حتى إن الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها فيحبسونه كيف شاءوا ويرسلونه كيف شاءوا فذلك قوله تعالى عما حكى عن قول فرعون: " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون " الزخرف 51 ولم يكن يومئذٍ في الأرض ملك أعظم من ملك مصر وكانت الجنات بحافتي النيل من أوّله إلى آخره في الجانبين معًا جميعًا مما بين أسوان إلى رشيد وسبع خلج: خليج الإسكندرية وخليج سخا وخليج دمياط وخليج منف وخليج الفيوم وخليج المنهي وخليج سردوس جنات متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء والزرع ما بين الجبلين من أوّل مصر إلى آخرها مما يبلغه الماء.
وكانت جميع أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعًا لما قدّروا ودبروا من قناطرها وخلجها وجسورها فذلك قوله تعالى: " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم " الدخان 26.
قال: والمقام الكريم: المنابر كان بها ألف منبر.
خليج سخا وخليج سخا: حفره ندارس بن صا ابن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح وهو: أحد ملوك القبط القدماء الذين ملكوا مصر في الدهر الأوّل.
قال ابن وصيف شاه: ندارس الملك أوّل من ملك الأحياز كلها بعد أبيه صا وصفا له ملك مصر وكان ندارس محتنكًا مجرّبًا ذا أيدٍ وقوّة ومعرفة بالأمور فأظهر العدل وأقام الهياكل وأهلها قيامًا حسنًا ودبر جميع الاحياز.
ويقال: إنه الذي حفر خليج سحا وارتفع مال البلد بعض عمالقة الشام فخرج إليه واستباحه ودخل فلسطين وقتل بها خلقًا وسبى بعض حكمائها وأسكنهم مصر وهابته الملوك وعلى رأس ثلاثين من ملكه طمع السودان من الزنج والنوبة في أرضه وعادوا وأفسدوا فجمع الجيوش من أعمال مصر وأعد المراكب ووجه قائدًا يقال له: فلوطس في ثلثمائة ألف وقائدًا آخر في مثلها ووجه في النيل ثلثمائة سفينة في كل سفينة كاهن يعمل أعجوبة من العجائب ثم خرج في جيوش كثيرة فلقي جمع السودان وكانوا في زهاء ألف ألف فهزمهم وقتل أكثرهم أبرح قتل وأسر منهم خلقًا وتبعتهم جيوشه حتى وصلوا إلى أرض الفيلة من بلاد الزنج فأخذوا منها عدّة ومن النمور والوحوش وساقوها إلى مصر فذللها وعمل على حدود بلده منارًا وزبر عليه مسيره وظفره الوقت الذي سار فيه ومات بمصر فدفن في ناووس نقل إليه شيئًا كثيرًا من أصنام الكواكب ومن الذهب والجوهر والصيغة والتماثيل وزبر عليه اسمه وتاريخ هلاكه وجعل له طلسمات تمنع منه وعهد إلى ابنه ماليق بن ندارس.
خليج سردوس: حفره هامان.
قال ابن وصيف شاه طلما بن قومس الملك: جلس على سرير الملك وحاز جميع ما كان في خزائنهم وهو الذي تذكر القبط أنه فرعون موسى.
فأما أهل الأثر فيزعمون أنه الوليد بن مصعب وأنه من العمالقة وذكروا أن الفراعنة سبعة وكان طلما فيما حكي عنه: قصيرًا طويل اللحية أشهل العينين صغير العين اليسرى في جبينه شامة وكان أعرج.
وزعم قوم: أنه من القبط ونسب أهل بيته مشهور عندهم.
وذكر آخرون: أنه دخل منف على أتان عليها نطرون جاء ليبيعه وكانوا قد اضطربوا في تولية الملك فرضوا أن يملكوا عليهم أوّل من يطرأ من الناس فلما رأوه ملكوه عليهم ولما جلس في الملك بذل الأموال وقرب من أطاعه وقتل من خالفه فاعتدل أمره واستخلف هامان وكان يقرب منه في نسبه وأثار بعض الكنوز وصرفها في بناء المدائن والعمارات وحفر خلجانًا كثيرة.
ويقال: إنه الذي حفر خليج سردوس وكان كلما عرّجه إلى قرية من قرى الحوف حمل إليه أهلها مالًا حتى اجتمع من ذلك مال كثير فأمر بردّه على أهله.
وقال ابن عبد الحكم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما: أن فرعون استعمل هامان على حفر خليج سردوس فلما ابتدأ حفره أتاه أهل كل قرية يسألونه أن يجري الخليج تحت قريتهم ويعطونه مالًا قال: وكان يذهب به إلى هذه القرية من نحو الشرق ثم يرده إلى قرية من نحو دبر القبلة ثم يرده إلى قرية في الغرب ثم يرده إلى أهل قرية في القبلة ويأخذ من أهل كل قرية مالًا حتى اجتمع له من ذلك مائة ألف دينار فأتى بذلك يحمله إلى فرعون فسأله عن ذلك فأخبره بما فعل في حفره فقال له فرعون: ويحك إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عباده ويفيض عليهم ولا يرغب فيما بأيديهم رد.
على أهل كل قرية ما أخذت منهم فرده كله على أهله.
قال: فلا يعلم بمصر خليج أكثر انعطافًا منه لما فعل هامان في حفره كان هامان نبطيًا.
مواضيع مماثلة
» مخرج النيل وانبعاثه
» من عجائب القرآن
» عجائب الطبيعة
» هل تجيئينَ معي إلى البحر ؟
» طريقة عمل طبق من فواكه البحر
» من عجائب القرآن
» عجائب الطبيعة
» هل تجيئينَ معي إلى البحر ؟
» طريقة عمل طبق من فواكه البحر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى