كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار-عز الدين المقدسي
صفحة 1 من اصل 1
كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار-عز الدين المقدسي
كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار
كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار-عز الدين المقدسي
الحمد لله البعيد في ُقربه، القريب في بعده، المتعالي في رفيع مجده، عن الشيء وضده، الذي أوجد بقدرته
الوجود بعد أن كان عدماً، وأودع كل موجود حكماً، وجعل العقل بينهما حكَماً، ليميز بين الشيء
وضده، وألهمه بما علّمه فعلم مر مذاق مصابه من حلاوة شهده. فمن فكر بصحيح قصده، ونظر بتوفيق
رشده، علم أن كل مخلوق موثوق في قبضتي شقائه وسعده، مرزوق من خزائن نعمه ورفده، قال تعالى:
"ما يفْتحِ اللهُ لِلناسِ مِن رحمةٍ فَلَا ممسِك لَها وما يمسِك فَلَا مرسِلَ لَه مِن بعدِهِ" فلو صفت عين
بصيرتك، وانجلت مرآة سريرتك، وأصغيت بسمع يقظتك، لأسمعك كل شيء موجود ما يجده من
منتقدات وجده، وما يكابده من وجدان بعده، ألم تسمع للنسيم كيف تنسم أسفاً لبكآء السحاب على
جزره ومده، وتأوه لهفاً على تبسم البرق لما سمع قهقهة رعده؟ ألم تسمع للربيع ما هو يبشرك بورود
ورده، وأخبرك بنشور ورده وشرود برده، وسعي إليك بانقلاب الشتآء لجرده ومرده، ووشى اليك القبول
بوشي الروض وبرده، وشكى إليك البان ما بان من تمايل قده، وأى إليك الأقحوان ما حاز من ألوان
الزهر و جنده، وحقوق أعلامه المعلمة بسعده، ووثب النرجس قائماً للقيام بورده، وأقبل الشقيق على
تشقيق ثوبه وقده، فكأنه ثلكى لا طماً على حمرة خده، ووصف إليك الجلنار جل نار هجوه وصده،
وناح العندليب على عوده الرطيب ورنده، وباح العاشق الكئيب بما يكابده من هوى زينبه وهنده، وهام
في فلوات خلواته طرباً بما سمعه عن طيب نجده، وفر هارباً إلى من يعلم خفايا ما أبداه وما لم يبده،
فالعارف من شكر سوابغ النغم، واحتقر معادن الحكم، ولم يقنه من اللبن إلا بزبده، وعلم أن الله تعالى ما
أحدث حدثاً، وأهمله عبثاً، بل كلّ واقف عند حده، باقٍ على حفظ عهده، مقر بتصديق وعيده ووعده
"وإِن من شيءِ إِلاَّيسبح بِحمدِهِ" أحمده على كل حال وأسأله توفيق حمده، وُأصلي على سدينا محمد
رسوله وعبده، الذي أنزل عليه في محكم كتابه العزيز مخبراً برفيع مجده " سبحانَ الَّذِي أَسرى بِعبدِهِ .."
صلى الله عليه وآله وصحبه وعشيرته وجنده.
أما بعد: فإني نظرت بعين التحقيق، ورأيت بنور التصديق والتوفيق، أن كل مخلوق مقر بوجود الخالق،
وكل صامت في الحقيقة ناطق، فاستعربت الإشارات، واستقرأت العبارات، فرأيت كلا ناطقاً بلسان حاله
ولسان قاله، لكني رأيت لسان الحال أفصح من لسان القال، وأصدق من كل مقال، لأن لسان الخبر
يحتمل التكذيب والتصديق، ولسان الحال لا ينطق إلا بالتحقيق. بالناطق بلسان الحال مخاطب لذوي
الأحوال، والناطق بلسان القال مقابل لأهل الصحة والاعتلال.
وقد وضعت كتاب هذا مترجماً عما استفدته من الحيوان برمزه، والجماد بغمزه، وما خاطبتني به الأزهار
عن حالها، والأطيار عن مقرها وارتحالها، وسميته: كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار، وجعلته
موعظة لأهل الاعتبار، وتذكرة لذوي الاستبصار، فاعتبروا يا أولي الأبصار، قال تعالى: "إِنَّ فِيِ خلْقِ
السمواتِ والأَرضِ واختِلاَفِ اللَّيلِ والنهار لآَياتٍ لأُولِي الأَلْبابِ".
فمن طالع مثالي، وفهم ضرب أمثالي، فذاك من أمثالي، ومن أعجم علي إشكالي فليس من أشكالي، فأقول
والله لعبده كالي: أخرجني الفكر يوماً لأنظر ما أوجدته أيدي القدم في الحدث، وأحدثته القدرة البالغة
للجد لا للعبث، فانتهيت إلى روضةٍ قد رق أديمها، ونمى خصيب رطيبها، وراق نسيمها، ونمَّ طيبها،
وغنى عندليبها، وتحركت عيدانها، وتمايلت أغصانها، وتنمقت أزهارها، وصوت هزازها، وتسلسلت
جداولها، وتبلبلت بلابلها.
فقلت: يا لها من روضة ما أهناها، وخضرة ما أبهاها، وحضرة ما أصفاها، فليتنى استصحبت صديقاً
حميماً يكون لطيب حضرتي نديماً.
فناداني لسان الحال في الحال: أتريد نديماً أحسن مني، أو مجيباً أفصح مني؟ وليس شيء في حضرتك إلا
وهو ناطق بلسان حاله، منادٍ على نفسه بدنوا ارتحاله، فاستمع له إن كنت من رجاله.
إشارة النسيم
فأول ما سمعت همهمة النسيم، يترنم بصوته الرخيم، يقول بلسان حاله، عن صريح لفظه ومقاله: أنا
رسول كل محب إلى حبيبه وحامل شكوى كل عليل إلى طبيبه، إن استودعت سِراً أديته كما استودعته،
وإن حملت نشراً رويته كما سمعته، وإن صحبت مصحوباً اتحد ت فيه بلطافة إيناسى، ومازجته بصفاء
أنفاسى، فإن طاب طبت، وإن خبث خبثت، كما قال الشاعر
وفى كُلّ َ شيءِ َله آيةٌ َتدلّ عَلى أَنه واحِ
إشارة الورد
ثم سمعت مجاوبة الأزاهير بألوانها، والشحارير بأقنائها، فرأيت الورد يخبر عن طيب وروده، ويعترف بعرفه
عند شهوده، ويقول: أنا الضيف، الوارد بين الشتاء، والصيف، أزور كما يزور الطيف، فاغتنموا وقتى
فإن الوقت سيف. أعطيت نفس العاشق و ُ كسيت لون المعشوق، فأروح الناشق وأهيج المشوق، فأنا الزائر
وأنا المزور، فمن طمع في بقائي فإن ذلك زور. ثم من علامة الدهر المكدور، والعيش الممرور؛ أنني حيث
ما نبت رأيت الأشواك تزاحمنى، والأدغال تجاورني، فأنا بين الأدغال مطروح، وبنبال شوكى مجروح،
وهذا دمى يرى عندما يلوح، فهذا حالى وأنا ألطف الأوراد،وأشرف الوراد، فمن ذا الذي سلم الأنكاد،
ومن صبر على نكد الدنيا فقد بلغ المراد.
وبينما أنا أرفل في حلل النضارة، إذ قطفتني يد النظارة، فأسلمتني من بين الأزاهير إلى ضيق القوارير،
فيذاب جسدي، ويحرق كبدي، ويمزق جلدي، ويقطر دمعي الندى، ولايقام بأودي، ولا يؤخذ
بقودي ، فجسدي في حرق، وجفوني في غرق، وكبدي في قلق، وقد جعلت ما رشح من عرقي شاهداً
لما لقيت من حرقي، فيتأسى باحتراقي أهل الاحتراق، ويتروح بنفسي ذوو الأشواق، فأنا فانٍ عنهم
بأياي، باقٍ فيهم بمعناي، أهل المعرفة يتوقعون لقآئي، وأهل المحبة بتمنون بقآئي،
إشارة الطاووس
ثم التفت، فرأيت طاووسا، قد شرب من خمرة العجب كؤوسا، قد رخرف بملابس التلبيس، وهو الذي
عاد عليه شؤم إبليس، قد زين ريشه ألوان، وفنن عيشه أفنان، لا يأوى إلا إلى الجنان، والله يعلم بما في
الجنان، فقلت له: ويحك، كم بينك وبين البوم من الحظ المقسوم، فأنت أيها العانى نظرت إلى الصور،
وهو نظر إلى المعاني، فأنت تفرح بالفاني، وتغتر بالامانى، فقال لي: يا عانى، يا من بالشماتة نعانى، لا
تظهر لي الشماته، ولا تذكر الحزين ما فاته، فقد قيل في الخبر: "ارحموا عزيز قوم ذل، وغنى قوم افتقر"،
أين كنت يا مسكين، وأنا في الجنان أطوف بين الظلال والقطوف، أدور دورها، وأزور حورها، وأسكن
قصورها، شرابي التسبيح، وطعامي التقديس، حتى ساق لي القدر إبليس، فألبسني ملابس التلبيس، حتى
عوضنى بالخسيس عن النفيس، ولقد كنت لمراده كاره، لكن القضاء والقدر يوقع في المكاره، وينفر الطير
عن أوكاره، ولقد كان إبليس يرفل في حلل حبه، وخلع قربه، فما تركه شؤم رأيه، حتى تاه على آدم
بعجبه، فأوقعنى في الخطية، وما أطلعنى على ماله في الطوية، غير أني كنت له دلاله، وكانت الحية في
دخوله الجنة محتاله، فأخرجت معهم من دار العز إلى دار الهوان والإذلال، وقيل: هذا أجره الدلال، وهذا
جرآء من عاشر الأنذال، ثم أبقيت على زينة ريشي، أتذكر به ما كان من صفو عيشى، فيزيدنى ذلك
تحرقا وتشوقا، ثم جعلت على علامة السخط في ساقي، أنظرها بإحداقى، وينادى على بنقض ميثاقى، ثم
إنى ألفت من البقاع بقعة، تشاكل ما خرجت منه، وطردت بما فعلت عنه، فأتذكر بالبساتين مرابع
ربوعى، وأجرى عليه سواكب دموعي، وألوم نفسي التي كانت سببا لوقوعي، وأقول كلما ذكرت
تفريق جموعي:
--------------
كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار-عز الدين المقدسي
الحمد لله البعيد في ُقربه، القريب في بعده، المتعالي في رفيع مجده، عن الشيء وضده، الذي أوجد بقدرته
الوجود بعد أن كان عدماً، وأودع كل موجود حكماً، وجعل العقل بينهما حكَماً، ليميز بين الشيء
وضده، وألهمه بما علّمه فعلم مر مذاق مصابه من حلاوة شهده. فمن فكر بصحيح قصده، ونظر بتوفيق
رشده، علم أن كل مخلوق موثوق في قبضتي شقائه وسعده، مرزوق من خزائن نعمه ورفده، قال تعالى:
"ما يفْتحِ اللهُ لِلناسِ مِن رحمةٍ فَلَا ممسِك لَها وما يمسِك فَلَا مرسِلَ لَه مِن بعدِهِ" فلو صفت عين
بصيرتك، وانجلت مرآة سريرتك، وأصغيت بسمع يقظتك، لأسمعك كل شيء موجود ما يجده من
منتقدات وجده، وما يكابده من وجدان بعده، ألم تسمع للنسيم كيف تنسم أسفاً لبكآء السحاب على
جزره ومده، وتأوه لهفاً على تبسم البرق لما سمع قهقهة رعده؟ ألم تسمع للربيع ما هو يبشرك بورود
ورده، وأخبرك بنشور ورده وشرود برده، وسعي إليك بانقلاب الشتآء لجرده ومرده، ووشى اليك القبول
بوشي الروض وبرده، وشكى إليك البان ما بان من تمايل قده، وأى إليك الأقحوان ما حاز من ألوان
الزهر و جنده، وحقوق أعلامه المعلمة بسعده، ووثب النرجس قائماً للقيام بورده، وأقبل الشقيق على
تشقيق ثوبه وقده، فكأنه ثلكى لا طماً على حمرة خده، ووصف إليك الجلنار جل نار هجوه وصده،
وناح العندليب على عوده الرطيب ورنده، وباح العاشق الكئيب بما يكابده من هوى زينبه وهنده، وهام
في فلوات خلواته طرباً بما سمعه عن طيب نجده، وفر هارباً إلى من يعلم خفايا ما أبداه وما لم يبده،
فالعارف من شكر سوابغ النغم، واحتقر معادن الحكم، ولم يقنه من اللبن إلا بزبده، وعلم أن الله تعالى ما
أحدث حدثاً، وأهمله عبثاً، بل كلّ واقف عند حده، باقٍ على حفظ عهده، مقر بتصديق وعيده ووعده
"وإِن من شيءِ إِلاَّيسبح بِحمدِهِ" أحمده على كل حال وأسأله توفيق حمده، وُأصلي على سدينا محمد
رسوله وعبده، الذي أنزل عليه في محكم كتابه العزيز مخبراً برفيع مجده " سبحانَ الَّذِي أَسرى بِعبدِهِ .."
صلى الله عليه وآله وصحبه وعشيرته وجنده.
أما بعد: فإني نظرت بعين التحقيق، ورأيت بنور التصديق والتوفيق، أن كل مخلوق مقر بوجود الخالق،
وكل صامت في الحقيقة ناطق، فاستعربت الإشارات، واستقرأت العبارات، فرأيت كلا ناطقاً بلسان حاله
ولسان قاله، لكني رأيت لسان الحال أفصح من لسان القال، وأصدق من كل مقال، لأن لسان الخبر
يحتمل التكذيب والتصديق، ولسان الحال لا ينطق إلا بالتحقيق. بالناطق بلسان الحال مخاطب لذوي
الأحوال، والناطق بلسان القال مقابل لأهل الصحة والاعتلال.
وقد وضعت كتاب هذا مترجماً عما استفدته من الحيوان برمزه، والجماد بغمزه، وما خاطبتني به الأزهار
عن حالها، والأطيار عن مقرها وارتحالها، وسميته: كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار، وجعلته
موعظة لأهل الاعتبار، وتذكرة لذوي الاستبصار، فاعتبروا يا أولي الأبصار، قال تعالى: "إِنَّ فِيِ خلْقِ
السمواتِ والأَرضِ واختِلاَفِ اللَّيلِ والنهار لآَياتٍ لأُولِي الأَلْبابِ".
فمن طالع مثالي، وفهم ضرب أمثالي، فذاك من أمثالي، ومن أعجم علي إشكالي فليس من أشكالي، فأقول
والله لعبده كالي: أخرجني الفكر يوماً لأنظر ما أوجدته أيدي القدم في الحدث، وأحدثته القدرة البالغة
للجد لا للعبث، فانتهيت إلى روضةٍ قد رق أديمها، ونمى خصيب رطيبها، وراق نسيمها، ونمَّ طيبها،
وغنى عندليبها، وتحركت عيدانها، وتمايلت أغصانها، وتنمقت أزهارها، وصوت هزازها، وتسلسلت
جداولها، وتبلبلت بلابلها.
فقلت: يا لها من روضة ما أهناها، وخضرة ما أبهاها، وحضرة ما أصفاها، فليتنى استصحبت صديقاً
حميماً يكون لطيب حضرتي نديماً.
فناداني لسان الحال في الحال: أتريد نديماً أحسن مني، أو مجيباً أفصح مني؟ وليس شيء في حضرتك إلا
وهو ناطق بلسان حاله، منادٍ على نفسه بدنوا ارتحاله، فاستمع له إن كنت من رجاله.
إشارة النسيم
فأول ما سمعت همهمة النسيم، يترنم بصوته الرخيم، يقول بلسان حاله، عن صريح لفظه ومقاله: أنا
رسول كل محب إلى حبيبه وحامل شكوى كل عليل إلى طبيبه، إن استودعت سِراً أديته كما استودعته،
وإن حملت نشراً رويته كما سمعته، وإن صحبت مصحوباً اتحد ت فيه بلطافة إيناسى، ومازجته بصفاء
أنفاسى، فإن طاب طبت، وإن خبث خبثت، كما قال الشاعر
وفى كُلّ َ شيءِ َله آيةٌ َتدلّ عَلى أَنه واحِ
إشارة الورد
ثم سمعت مجاوبة الأزاهير بألوانها، والشحارير بأقنائها، فرأيت الورد يخبر عن طيب وروده، ويعترف بعرفه
عند شهوده، ويقول: أنا الضيف، الوارد بين الشتاء، والصيف، أزور كما يزور الطيف، فاغتنموا وقتى
فإن الوقت سيف. أعطيت نفس العاشق و ُ كسيت لون المعشوق، فأروح الناشق وأهيج المشوق، فأنا الزائر
وأنا المزور، فمن طمع في بقائي فإن ذلك زور. ثم من علامة الدهر المكدور، والعيش الممرور؛ أنني حيث
ما نبت رأيت الأشواك تزاحمنى، والأدغال تجاورني، فأنا بين الأدغال مطروح، وبنبال شوكى مجروح،
وهذا دمى يرى عندما يلوح، فهذا حالى وأنا ألطف الأوراد،وأشرف الوراد، فمن ذا الذي سلم الأنكاد،
ومن صبر على نكد الدنيا فقد بلغ المراد.
وبينما أنا أرفل في حلل النضارة، إذ قطفتني يد النظارة، فأسلمتني من بين الأزاهير إلى ضيق القوارير،
فيذاب جسدي، ويحرق كبدي، ويمزق جلدي، ويقطر دمعي الندى، ولايقام بأودي، ولا يؤخذ
بقودي ، فجسدي في حرق، وجفوني في غرق، وكبدي في قلق، وقد جعلت ما رشح من عرقي شاهداً
لما لقيت من حرقي، فيتأسى باحتراقي أهل الاحتراق، ويتروح بنفسي ذوو الأشواق، فأنا فانٍ عنهم
بأياي، باقٍ فيهم بمعناي، أهل المعرفة يتوقعون لقآئي، وأهل المحبة بتمنون بقآئي،
إشارة الطاووس
ثم التفت، فرأيت طاووسا، قد شرب من خمرة العجب كؤوسا، قد رخرف بملابس التلبيس، وهو الذي
عاد عليه شؤم إبليس، قد زين ريشه ألوان، وفنن عيشه أفنان، لا يأوى إلا إلى الجنان، والله يعلم بما في
الجنان، فقلت له: ويحك، كم بينك وبين البوم من الحظ المقسوم، فأنت أيها العانى نظرت إلى الصور،
وهو نظر إلى المعاني، فأنت تفرح بالفاني، وتغتر بالامانى، فقال لي: يا عانى، يا من بالشماتة نعانى، لا
تظهر لي الشماته، ولا تذكر الحزين ما فاته، فقد قيل في الخبر: "ارحموا عزيز قوم ذل، وغنى قوم افتقر"،
أين كنت يا مسكين، وأنا في الجنان أطوف بين الظلال والقطوف، أدور دورها، وأزور حورها، وأسكن
قصورها، شرابي التسبيح، وطعامي التقديس، حتى ساق لي القدر إبليس، فألبسني ملابس التلبيس، حتى
عوضنى بالخسيس عن النفيس، ولقد كنت لمراده كاره، لكن القضاء والقدر يوقع في المكاره، وينفر الطير
عن أوكاره، ولقد كان إبليس يرفل في حلل حبه، وخلع قربه، فما تركه شؤم رأيه، حتى تاه على آدم
بعجبه، فأوقعنى في الخطية، وما أطلعنى على ماله في الطوية، غير أني كنت له دلاله، وكانت الحية في
دخوله الجنة محتاله، فأخرجت معهم من دار العز إلى دار الهوان والإذلال، وقيل: هذا أجره الدلال، وهذا
جرآء من عاشر الأنذال، ثم أبقيت على زينة ريشي، أتذكر به ما كان من صفو عيشى، فيزيدنى ذلك
تحرقا وتشوقا، ثم جعلت على علامة السخط في ساقي، أنظرها بإحداقى، وينادى على بنقض ميثاقى، ثم
إنى ألفت من البقاع بقعة، تشاكل ما خرجت منه، وطردت بما فعلت عنه، فأتذكر بالبساتين مرابع
ربوعى، وأجرى عليه سواكب دموعي، وألوم نفسي التي كانت سببا لوقوعي، وأقول كلما ذكرت
تفريق جموعي:
--------------
مواضيع مماثلة
» مكارم الأخلاق و كتمان الأسرار للامام الشافعى
» الأسرار السبعة لنشر موقعك وزيادة مبيعاتك على الانترنت
» رأي الدين في ختان الإناث
» الدين ومنبع الإبداع الجمالي
» اسطوانة صلاح الدين الايوبي
» الأسرار السبعة لنشر موقعك وزيادة مبيعاتك على الانترنت
» رأي الدين في ختان الإناث
» الدين ومنبع الإبداع الجمالي
» اسطوانة صلاح الدين الايوبي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى