في نبذة من كلام الأذكياء
صفحة 1 من اصل 1
في نبذة من كلام الأذكياء
وهذه نبذة من كلام الأذكياء، وإنما نعني بها ما شأنه أن يصدر عن ذكي سواء صدر عنه أو غيره، وللناظر العاقل في كليهما اعتبار، فإن كل ما هو حكمة أو صواب من القول فهو ثمرة العقل عادة، فإن صدر عن العاقل دل على حكمة الله تعالى الباهرة في ترتيب المسببات على أسبابها، ونبه على شرف العقل وشرف من اتصف به من الخلق، وإن صدر عن غير العاقل دلّ على مشيئة الله تعالى واختياره في أن يفعل ما شاء وأنه هو الخالق للحكمة والصواب على ألسنة العقلاء من غير تأثير للعقل فيها ولا ربط عقلي بينه وبينها بل عنده لا به، فتبارك الله رب العالمين، فيدخل في هذا ما يقع للحكماء، وما يندرج عن غيرهم كالصبيان والنساء وجفاة الأعراب، وتدخل الأجوبة المسكتة ونحو ذلك.
فمن ذلك ما ورد عن حكماء العرب وبعضه ينسب حديثًا: لا حليم إلاّ ذو عثرة ولا حكيم إلاّ ذو تجربة.
خير المقال ما صدقه الفعال.
رأس الدين، صحة اليقين.
كفر النعمة لؤم،وصحبة الجاهل شؤم.
جانب مودة الحسود، وإن زعم أنه ودود.
إذا جهل عليك الحمق فالبس له سلاح الرفق.
لكل شيء آفة، فآفة العلم النسيان، وآفة العبادة الرياء، وآفة الحياء الضعف، وآفة اللب العُجْب، وآفة الظرف الصلف، وآفة الجود السرف، وآفة الجمال التيه، وآفة السؤدد الكبر، وآفة الحلم الذل.
ويقال أيضًا: آفة الحلم السفه، وآفة الحديث الكذب، وآفة العبادة الفَتْرَةُ، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الدين الهوى، وآفة الحسب الفخر.
والمراد بالصلف هنا مجاوزة الحد تكبرا.
مؤمل النفع من اللئام، كزارع البذر في الحمام.
صحبة الفاسق شين، وصحبة الفاضل زين.
من جرى في ميدان أمله، عثر في عنان أجله.
من لم يصبر على البلاء، لم يرض بالقضاء.
فقد الصبر، أعظم من حوائج الدهر.
إذا حزن الفؤاد، ذهب الرقاد.
الجليس الصالح، كالمسك النافح.
الحسود مغتاظ على من لا ذنب له.
من الآفات، كثرة الالتفات.
من أشد العذاب، فراق الأحباب.
كلب شاكر، خير من صديق غادر.
إذا جاء القدر، عمى البصر.
العيال، سوس المال.
إذا صدق العيان، لم يحتج إلى برهان.
شفاء الصدور، في التسليم للمقدور.
الحق ثقيل، وطالبه قليل.
كثرة العتاب، داعية الاجتناب.
من سعى إليك، سعى عليك.
مدح الغائب تعريض بالحاضر.
من تفرغ للشر يطلبه، أتيح له من يغلبه.
من أمل أحدًا هابه، ومن قصر عن شيء عابه.
رب أخ لم تلده لك أمك.
لا يضر السحابَ، نُباحُ الكلاب.
وفي معناه قول حسان رضي الله عنه:
ما أبالي أنَبَّ بالحَزْن تيس *** أم لحاني بظهر غيبٍ لئيمُ
وقول الآخر:
ما يضر البحر أمسى زاخرًا *** أن رمى فيه غلام يحجر
وقول الآخر:
زعم الفرزدق أن سيقتل مِرْبعًا *** أبشر بطول سلامة يا مِرْبع
وقول الآخر:
تهددني لتقتلني نمير *** متى قتلت نمير من هجاها
وقيل: مما يعين على العدل اصطناع من يؤثر التقى، واطّراح من يقبل الرُّشا، واستكفاء من يعدل في القضية، واستخلاص من يشفق على الرعية، فإنه ما عدل من جار وزيره، ولا صلح من فسد مشيره.
وقيل: آفة الملوك سوء السيرة، وآفة الوزراء خبث السريرة، وآفة الجند مفارقة القادة، وآفة الرعية مفارقة الطاعة، وآفة الزعماء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة، وآفة القضاة شدة الطمع، وآفة الشهود قلة الورع.
وقيل: أربعة لا يزول معها ملك: حفظ الدين، واستكفاء الأمين، وتقديم الحزم، وإمضاء العزم.
وأربعة لا يثبت معها ملك: غش الوزير، وسوء التدبير، وخبث النية، وظلم الرعية.
وأربعة لا تستغني عن أربعة: الرعية عن السياسة، والجيش عن القادة، والرأي عن الاستشارة، والعزم عن الاستخارة.
وأربعة لا بقاء لها: مال يجمع من حرام، وحال تعهد من الأيام، ورأي يعرى من العقل، وملك يخلو من العدل.
وأربعة تولد المحبة: حسن البشر، وبذل البر، وقصد الوفاق، وترك النفاق.
وأربعة من علامات الكرم: بذل الندى، وكف الأذى، وتعجيل المثوبة وتأخير العقوبة.
وأربعة من علامات اللؤم: إفشاء السر، واعتقاد الغدر، وتجنب الأخيار، وإساءة الجوار.
وأربعة من علامات الإيمان: حسن العفاف، والرضى بالكفاف، وحفظ اللسان، ومحبة الإخوان.
وأربعة من علامات النفاق: قلة الديانة، وكثرة الخيانة، وغش الصديق، ونقض المواثيق.
وأربعة تزال بأربعة: النعمة بالكفران، والقوة بالعداون، والدولة بالإغفال، والحظوة بالإدلال.
وأربعة يُترَقّى بها إلى أربعة: العقل الرياسة، والرأي إلى السياسة، والعلم إلى التصدير، والحلم إلى التوقير.
وأربعة تؤدي إلى أربعة: الصمت إلى السلامة، والبر إلى الكرامة، والجود إلى السيادة، والشكر إلى الزيادة.
وأربعة تدل على وفور العقل: حب العلم، وحسن العلم، وصحة الجواب، وكثرة الصواب.
وأربعة تدل على نقصان العقل: الجهل بالأعادي، والأمن للعوادي، والجفوة للإخوان، والجرأة على السلطان.
وأربعة لا تتم إلاّ بأربعة: العلم بالحجا، والدين بالتقى، والعمال بالنيات، والموالاة بإخلاص الطويّات.
وقال حكيم آخر: ثلاث لا يستصلح فسادهن بشيء من الحيلة: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركاكة في العقول.
وثلاث لا يستفاد صلاحهن بنوع من المكر: العبادة من العلماء، والقناعة من المستبصرين، والسخاء في ذوي الأخطار.
وثلاثة لا يشبع منها: الحياة، والعافية، والمال.
وثلاثة لا يستغني عنها السلطان: وزير حسن التدبير، ومستشار نصيح، وصاحب بريد صدوق.
وثلاث هي قوام العالم: عدل الأمراء، وصلاح العلماء، وانقياد الرعية للرؤساء.
ومن مشاهير الحكماء القدماء لقمان الحكيم، وقد ذكره الله تعالى وذكر "بعض" ما قال لابنه، وقال له رجل: ما الذي بلغ بك ما أرى؟ فقال: ما ذاك؟ فقال: وطئ الناس بساطك ورضوا بقولك، فقال: يا أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك، ثم قال: غَضّي بصري، وكفّي لساني، وعفة مطمعي، وحفظ فرجي، وقيامي بعهدي، ووفائي بوعدي، وإكرام ضيفي، وحفظ جاري، وترك ما لا يعنيني هو الذي صيرني كما ترى.
ومن حكيم كلامه لابنه: يا بني. جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله تعالى يحيي القلوب الميتة بالعلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر.
وقوله: من لم يملك لسانه يندم، ومن لم يتق الشتم يشتم، ومن صاحب قرين السوء لم يسلم.
وقال قائل لأكثم بن صيفي حكيم العرب: ما السؤدد؟ قال: اصطناع العشيرة، واحتمال الجريرة، قال: فما الشرف؟ قال: كفّ الأذى، وبذل الندى، قال: فما المجد؛ قال: حمل المغارم، وبناء المكارم، قال: فما الكرم؟ قال: صدق الإخاء، في الشدة والرخاء، قال: فما العز؟ قال: شدة العضد، وكثرة العدد، قال: فما السماحة؟ قال: بذل النائل، وحب السائل، قال: فما الغنى؟ قال: الرضا بما يكفي، وقلة التمني، قال: فما الرأي؟ قال: لُبٌّ تعينه تجربة.
ومن كلامه أيضًا: من وفى بالعهد، فاز بالحمد، ومن اصطنع قومًا، انتفع بهم يومًا، ومن فسدت بطانته كان كمن غصّ بالماء، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن حدث من لا يفقه كان كمن قدم مائدة لأهل القبور، ومن قطع عليك الحديث فلا تحدثه، إذ ليس بصاحب أدب، ومن عرف بالصدق قُبِل كَذِبه، ومن عرف بالكذب لم يُقبل صدقه، ومن غضب بلا شيء رضي بلا شيء، ومن أظهر محاسنه ودفن مساويه كمل عقل، ومن غلب هواه عقله افتضح، ومن استشار عدوه في صديقه أمر بقطيعته، ومن فرح بكذب الناس في الثناء عليه بان لهم حُمقه، ومصادقة الكرام غنيمة، ومصادقة اللئام ندامة، وعِدَةُ الكريم نقْد، وعِدَة اللئيم تسويف.
ومن كلام بزرجمهر الفارسي: نصحني النصحاء، ووعظني الوعاظ، فلم يعظني أحد مثل شيمتي، ولا نصحني مثل فكري، واستضأت بنور الشمس وضوء النهار، فلم أستضيء بشيء أضوأ من نور قلبي، وكنت عبد الأحرار والعبيد، فلم يملكني أحد ولا قهرني مثل هواي، وعاداني العداء فلم أرَ أعدى إلي من نفسي، وزاحمتني المضايق، فلم يزاحمني مثل الخلق السوء، ووقعت في المضار العظيمة، فلم أقع في أضر من لساني، ومشيت على الجمر ووطئت على الرمضاء، فلم أرَ نارًا أحر من غضبي إذا تمكن مني، وطلبني الطلاب فلم يدركني مثل إساءتي، وفكرت في الداء القاتل ومن أين يأتيني فوجدته من معصية ربي، والتمست الراحة لنفسي فلم أجد شيئًا أروح لها من ترك ما لا يعنيها، وركبت البحر، وعاينت الأهوال، فلم أرَ هولًا أعظم من الوقوف بين يدي سلطان جائر، وتوحشت في البراري والجبال، فلم أرَ أوحش من قرين السوء، وعالجت السباع فغلبتها، وغلبني صاحب الخلق السوء، وأكلت الطيّب، وشربت المسْكر، وعانقت الحسان، وركبت الجياد، فلم أجد شيئًا ألذ من العافية والأمن، وأكلت الصَّبر وشربت المر، فلم أرَ شيئًا أمرّ من الفقر، وشاهدت الزحوف، وعاينت الحتوف، وضارعت الأقران، فلم أرَ أغلب من المرأة السوء، وعالجت الأثقال، ونقلت الصخر، فلم أرَ حِمْلًا أثقل من الدَّين، ونظرت فيما يذل العزيز، ويسكر القوي، ويضع الشريف، فلم أرَ أذل من ذي فاقة وذي حاجة، ورشقت بالنشاب وشددت في الوثاق، وضربت بعمد الحديد، فلم يهدمني مثل ما هدمني الهم والحزن، واصطنعت الأخدان وانتخبت الأقوام للعدة والشدة والنائبة، فلم أرَ شيئًا خيرًا من التكرم عندهم، وطلبت الغنى من وجوهه، فلم أرَ غنىً أغنى من القناعة، وتصدقت بالذخائر، فلم أرَ أنفع من رد ضال إلى الهدى، ورأيت الذل في الغربة والوحدة، فلم أرَ أذل من مقاساة جار السوء، وشيدت البنيان لأعتز به وأُذكر فلم أرَ شرفًا أرفع من اصطناع المعروف، ولبست الملابس الفاخرة، فلم ألبس مثل الصلاح، وطلبت أحسن الأشياء عند الناس فلم أجد شيئًا أحسن من حسن الخلق، وسررت بعطايا الملوك وجوائزهم، فلم أسر بشيء أعظم من الخلاص منهم.
ولما قتله كسرى أنوشروان لرغبته عن دين المجوسية وانتقاله إلى دين عيسى عليه السلام وجدوا في منطقته رقعة فيها ثلاث كلمات وهي: إذا كان القدر حقًا فالحرص باطل، وإذا كان الغدر في الناس طبيعة فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت بكل الناس نازلًا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق.
ويقال: إن المهلب لما توسم النجابة في ابنه يزيد وهو صغير أراد أن يختبره، فقال له: يا بني ما أشد البلاء؟ قال: يا أبت معاداة العقلاء، ثم قال: اقلني قال: قد أقلتك فقل: فقال: أشد البلاء تأمير اللؤماء على الكرماء. ثم قال: أقلني قال: قد أقلتك فقل: فقال: أشد البلاء معاداة العقلاء ومسألة البخلاء وتأمر اللؤماء على الكرماء، فقال المهلب: والله يا بني ما يسرني بقولك مقول لقمان، ولا يعدل عندي بقاءك ملك سليمان.
وكان زياد وهو من ذوي السياسة يقول: أوصيكم بثلاثة: العالم والشيخ والشريف، فوالله لا أوتي بوضيع سب شريفًا، أو شاب وثب بشيخ، أو جاهل امتهن عالمًا، إلاّ عاقبت وبالغت.
وفي الأجوبة: أمر عليه الصلاة والسلام أن تضرب عنق عقبة بن أبي معيط فقال: من للصبية يا محمد؟ قال: النار.
وقال الصديق رضي الله عنه لرجل قال له: لأشتمنك شتمًا يدخل معك في قبرك: معك والله يدخل لا معي.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لعامر بن عبد القيس العنبري ورآه أعرابيًا: يا أعرابي أين ربك؟ قال: بالمرصاد.
وقال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فقال علي: أين سؤال عن المكان وكان الله ولا مكان.
وكان الأعمش يقول: احذروا الجواب، فإن عمروا بن العاصي قال لعدي بن حاتم: متى فقئت عينك يا أبا طريف؟ فقال: يوم طعنت في أستك وأنت مُوَلٍّ يعني يوم صفّين.
ودخل معن بن زائدة على المنصور فقال: كبر سنك يا معن فقال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: وإنك مع ذلك لجلد، قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لبقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين.
وقال معاوية لابن عباس رضي الله عنهم، وقد كف بصره: أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم، فقال: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم.
وقال ابن "أبي" الزناد لابن شبرم في مناظرة: من عندنا خرج العلم، فقال ابن شبرمة: نعم ثم لم يعد إليكم.
وقال عمر بن الخطاب لأبي مريم السلولي: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم قال: أفتمنعني حقًا؟ قال: لا، قال: فلا بأس، إنما يأسف على الحب النساء.
وقال الحجاج لرجل من الخوارج: إني لأبغضكم فقال الخارجيّ: أدخل الله أشدنا بغضًا لصاحبه الجنة.
وقال رجل لعمرو بن العاصي: لأتفرغن لك، فقال: حينئذ تقع في الشغل.
وقال عبد الملك بن مروان لبثينة صاحبة جميل: ما رجا منك جميل حين أحلك؟ فقالت له: ما رجت منك الأمة حين ملكتك أمرَها.
وقال لثابت بن عبد الله: زعم عبد الله بن هلال أنك أشبه الناس بإبليس، قال: صدق، ما ينكر أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن؟ وقال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين قالوا {ربنا باعد بين أسفارنا} وكان اجتماع الشمل خيرًا لهم، فقال اليماني: يا أمير المؤمنين: قومك أحمق حين قالوا: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} ولم يقولوا: فاهدنا له.
وقال الرشيد لشريك القاضي: يا شريك آية في كتاب والله ليس لك ولا لقومك فيها شيء قوله تعالى: {وإنَّهُ لذكر لَكَ ولقومك} فقال: يا أمير المؤمنين وآية أخرى ليس لي ولا لقومي فيها شيء قوله تعالى: {وكّذَّب بهِ قَوْمكَ وَهُوَ الحَقّ}".
وقدم على عمر بن عبد العزيز فتيان فقالوا: توفي أبونا وترك مالًا عند عمنا حُمَيْد، فأمر بإحضاره وقال له: أنت القائل؟:
حُمَيْدُ الذي أمَجٌ دارُه *** أخو الخمر ذو الشيبة الأصلعُ
أتاه المشيب على شربها *** وكان كريمًا فما يَنْزِعُ
قال: نعم، قال: أما إذ أقررت فسأجدُّك قال: هيهات، ألم تسمع قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتْبَعَهُمْ الغَاوُونَ ألَمْ تَرَ أنَّهُمْ في كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} قال: أفلت ثم قال: يا حميد، لقد كان أبوك رجلًا صالحًا وأنت رجل سوء، قال: هؤلاء يزعمون أن أباهم توفي وترك عندك مالًا، قال: نعم، وأنا أنفق عليهم من مالي ثم أحضر المال بخواتيم أبيهم، فقال عمر: ما أحدٌ أحق أن يكون عنده منك، قال: لا يعود إليَّ بعد أن خرج مني، وأمج بفتحتين موضع.
ويروى عن الأصمعي أنه قال: أتى شهر رمضان وأنا بمكة، فخرجت إلى الطائف لأصوم به فرارًا من حر مكة، فلقيني أعرابي فقلت له: أين تريد؟ قال: أريد هذا البلد المبارك "لأصوم فيه هذا الشهر المبارك" فقلت له: أما تخاف الحر؟ قال: من الحر أفِرّ.
ونحو هذا ما يحكى عن الربيع بن خثيم رضي الله عنه وقد صلى ليلة حتى أصبح. فقال له رجل: أتعبت نفسك فقال: راحتها أطلب.
ونحوه قول عروة بن الورد:
تقول سليمى: لو أقمت بأرضنا *** لم تدرِ أني للمقام أُطَوِّف
وقول الآخر:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا *** وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
وقول أبي تمام:
أألفة النحيب كم افتراقٍ *** أجدَّ فكان داعية اجتماع
وليست فرحة الأوبات إلاّ *** لموقوفٍ على ترَح الوداع
وقال مسلمة بن عبد الملك يومًا لنصيب الشاعر: أمدحت فلانًا لرجل من أهله؟ قال: قد فعلت، قال: أوحرمك؟ قال: قد فعل، قال: فهلاّ هجوته؟ قال: لم أفعل لأني أحق بالهجاء منه إذْ رأيته موضعًا لمدحي، فأعجب ذلك مسلمة فقال له: سلني، قال: لا أفعل، قال: ولم؟ قال: لأن كفك بالعطية أجود من لساني بالمسألة، فوهب له ألف دينار.
ولما فتح قتيبة بن مسلم سمَرْقَنْد ظفر بأثاث وآلات لم يرَ مثلها، وأراد أن يُري الناس عظيم ما ظفر، فأمر بدار ففرشت وفيها قدور تُرْتقى بالسلالم، فإذا بالحضين بن المنذر الرَّقاشي قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم، والحصين شيخ كبير، فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لقتيبة: ائذن لي في معابثته، فقال له: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلاّ أن يعابثه، وكان عبد الله يضعَّفُ، وكان قد تسوَّر حائطًا إلى امرأة قبل ذلك، فأقبل على الحضين فقال له: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان، قال: أجل، أسنَّ عمك عن تسوُّر الحيطان. قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظمُ مِن أن لا تُرى، قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قطُّ، قال: أجل، ولا عيلان، ولو كان رآها لسمي شَبْعان ولم يُسَمَّ عَيْلان. فقال عبد الله: يا أبا ساسان أتعرف الذي يقول:
عزَلْنا وأمَّرْنا وبكر بنُ وائل *** تجُرّ خُصاها تيتغي من تُحالف
قال: أعرف هذا وأعرف الذي يقول:
وخيبة من يخيب على غّنيٍّ *** وباهلة بن أعصر والركاب يريد يا خيبة من يخيب. قال: أفتعرف الذي يقول:
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع *** إذا عرقت أفواه بكر بن وائل
قال أعرف هذا وأعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أمهم وأبوهم *** لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
وقبل هذا البيت:
إن كنت ترجو ان تنال رغيبة *** في دار باهلة بن أعصر فارحل
قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيء؟ فقال: أقرأ منه الأكثر الأطيب: {هَلْ أتَى عَلى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} فأغضبه فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره، فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى ثم قال على رِسْلِهِ: وما يكون؟ تلد غلامًا على فراشي فيقال: بن الحضين كما يقال: عبد الله بن مسلم.
ودخل المعتصم على خاقان يعوده في مرض، فقال للفتح ابنه وهو صبي: أيما أحسن داري أم داركم؟ فقال: يا أمير المؤمنين أما ما دمتَ في دارنا فهي أحسن، ويروى أنه قال له: الدار التي أنتَ فيها أحسن يعني دارهم.
وقيل لرجل من الجند: أراك تكره الخروج إلى العدو، فقال: إني لأكره أن يأتيني الموت في بيتي، فكيف أسافر إليه؟ ولما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد بقيت أخته آمنة عند الوليد، فلما هلك عبد الملك سعى بها ساع إلى الوليد وأنها لم تبك على عبد الملك كما بكت نظائرها، فذكر لها الوليد ذلك فقالت: صدق القائل إن كنت قائلة ماذا أقول؟ يا ليته بقي حتى يقتل لي أخًا آخر كعمرو بن سعيد.
ويلتحق بهذا الباب ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على القبائل خرج وأنا معه وأبو بكر معنا، فأتينا مجلسًا فقلنا: من القوم؟ فقالوا: من ربيعة، فقال: أبو بكر: من هامتها أم لهازِمِها؟ فقالوا: من هامتها العظمى، فقال: وأيّ هامتها العظمى؟ قالوا: ذُهْل الأكبر، قال: فمنكم عوف الذي كان يقال فيه: "لا حُرَّ وِوَادِي عَوْف" قالوا: لا، قال: فمنكم بسطام منتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة؟ قالوا: لا، قال: فمنكم حسان بن ربيعة حامي الذمار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحَوْفَزان قاتل الملوك؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أصهار الملوك من لحم؟ قالوا: لا، قال: لستم ذُهْل الأكبر، أنتم ذُهْل الأصغر، فقام إليه أعرابي منهم وقال:
إنَّ على سائلنا أن نسأله *** والعِبءُ لا تعرفه أو تحمِله
يا هذا سألتنا فلم نكتمك، فمن أنت؟ قال: من قريش، قال: بخ بخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من تيم ابن مرة، قال: أمكنت الرامي من ثغرتك، فمنكم قصي الذي جمع الله به القبائل من فهر؟ قال: لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه؟ قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد مطعم الطير؟ قال: لا، قال: فلكم الإفاضة؟ قال: لا، قال: فلكم الندوة؟ قال: لا، قال: فلكم الحجابة؟ قال: لا، قال: فلكم السّقاية؟ قال: لا، ثم اجتذب أبو بكر زمام طاقته وانصرف عنه، فقال له: أيم الله، لو تلبثت لأخبرتك أنك من زمعات قريش أو ما أنا بدغفل فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال علي: فقلت: يا أبا بكر حصلت من الأعرابي على باقعة، قال: أجل إن فوق كل طامة طامة، والبلاء موكل بالمنطق.
وكان عتبة بن أبي سفيان عاملًا على المدينة فولى رجلًا من أهله على الطائف، ثم إنه ظلم رجلًا من الأزد وأخذ له غنمًا، فجاء إلى المدينة مشتكيًا ودخل على عتبة فأنشأ يقول:
أمرت من كان مظلومًا ليأتيكم *** فقد أتاك غريب الدار مظلوم
وذكر ما فعل به العامل وأكثر، فقال له عتبة: إنك أعرابيّ جاف، والله ما أحسبك تعرف كم تصلي في كل يوم وليلة، فقال الأعرابيّ: أرأيتك إن أنبأتك عن ذلك أن تجعل لي أن أسألك عن مسألة؟ قال: نعم، فقال الأعرابي:
إن الصلاة أربع وأربع ***
ثم ثلاث بعدهن أربع ***
ثم صلاة الفجر لا تضيع ***
قال صدقت فسل، فقال: كم فقار ظهرك قال: لا ادري، قال: فتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك، فقال عتبة: ردوا عليه غنيمته.
ولما ظهر المهلب بن أبي صفرة على الخوارج أرسل كعب "قال عنه الأصفهاني في "أغانيه" "14: 284": "كعب بن معدان الأشقري، والأشاقر قبيلة من الأزد، شاعر، فارس، خطيب، معدود في الشجعان، من أصحاب المهلب والمذكورين في حروب الأزارقة"" ابن مَعْدان الأشقري ومرة بن تليد الأزدي إلى الحجاج ليعلماه بالفتح فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشد:
يا حفص إني عداني عنكم السفر *** وقد سهرت فأرْدى نوميَ السهر
فقال له الحجاج: أشاعر أم خطيب؟ فقال: كلاهما، ثم أنشده القصيدة، ثم أقبل عليه فقال: خبرني عن "بني" المهلب فقال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى بيزيد فارسًا شجاعًا، وجوادهم وسحبهم قبيصة، ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدرك، وعبد الملك سم ناقع وحبيب موت ذعاف، ومحمد ليث غاب، وكفى بالفضل نجدة، قال: فكيف خلفت جماعة الناس؟ قال: قد خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حماة للسرح نهارًا، فإذا أليلوا ففرسان للبيات، قال: فأيهم كان انجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم؟ قال: كنا إذا أخذنا عفونا "واخذوا عفوهم يئسنا منهم"، وإذا اجتهدوا واجتهدنا طمعنا فيهم، فقال الحجاج: {إنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} كيف أفلتكم قطري؟ قال: كادنا ببعض ما كنا نكيده، قال: فهلا اتبعتموه؟ قال: كان الحد عندنا آثر من الفل، قال: كيف كان لكم المهلب وكنتم له؟ قال: كان لنا منه شفقة الوالد، وله منا بر الولد، قال: فكيف اغتباط الناس؟ قال: فشا فيهم الأمن، وشملهم النقل قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب؟ قال: لا يعلم الغيب إلاّ الله، قال: هكذا والله يكون الرجال، المهلب كان أعلم بك حين وجهك.
وفي "نوادر القالي" أن الحجاج قال له: كيف كان محاربة المهلب للقوم؟ قال: كان إذا وجد الفرصة سار كما يسور الليث، وإذا دَهِمَتْه الطحمة راغ كما يروغ الثعلب، وإذا مادَّه القوم صبر صبر الدهر، وانه قال له: كيف أفلتكم قطريّ؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه به، والأجل أحصن جنة، وأنفذ عُدة، قال: وكيف اتبعتم عبد ربه وتركتموه؟ قال: آثرنا الحد على الفل، وكانت سلامة الجند أحب إلينا من شجب العدو.
ولما مات سعيد بن العاصي قال معاوية لابنه عمرو بن سعيد وهو صبي صغير: إلى من أوصى بك أبوك يا غلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن أبي أوصاني ولم يوص بي.
وقال معاوية لابنه يزيد وهو ابن تسع سنين: في أي سورة أنت يا بني؟ وكان في سورة القتال، فكره أن يذكرها فقال: أنا في السورة التي تلي: {إنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا} يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: هذه السورة تليها سورتان، وهي بينهما، ففي أيتهما أنت؟ قال: في السورة التي فيها: {وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلى مُحَمّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّآتِهِمْ وَأصْلَحَ بَالَهُمْ} فتمثل معاوية حينئذ بقول الشاعر:
ملوك وأبناءُ الملوك وسادة *** تفلق عنها بيضة الطائر الصقر
متى تلق منهم ناشئًا في شبابه *** تجده على آثار والده يجري
ولما أصاب أهل البوادي القحط أيام هشام بن عبد الملك وفدت عليه رؤساء القبائل وفيهم صبي صغير في رأسه ذؤابة، وعليه بردة يمنية فأنكر هشام حضوره وقال للحاجب: ما يشاء أحد أن يصل إلينا إلاّ وصل حتى الصبيان، فقال الصبي: يا أمير المؤمنين إن دخولي لم ينقصك، ولكن شرفني، وإن هؤلاء قدموا لأمر فهابوك دونه، وإن الكلام نشر والسكوت طي لا يعرف إلاّ بنشره، فأعجب هشامًا كلامه "فقال له:" انشر لا أم لك فقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون ثلاث، فسنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم، وفي يدكم نصول أموال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين، فقال هشام: ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذرًا، وأمر بمائة ألف درهم "ففرقت في البادية وأمر للغلام بمائة ألف درهم" فقال: ارددها في جائزة العرب، فما لي بها حاجة في خاصة نفسي دون سائر المسلمين، فكان في هذه أعجب.
ولما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه جاءته الوفود، فحين دخل عليه وفد أهل الحجاز أراد غلام منهم أن يتكلم فقال له عمر: يا غلام، يتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لسانًا لافظًا، وقلبًا حافظًا، فقد أجاد "له" الاختيار، ولو أن الأمور بالسن لكان هنا من هو أحق بمجلسك منك، فقال له: صدقت فتكلم، فهذا هو السحر الحلال، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفدُ التهنئة، لا وفد المرزئة، لم تقْدِمْنا إليك رغبةٌ ولا رهبةٌ، لأنا قد أمِنّا في أيامك ما خفناه، وأدركنا ما طلبناه، وفي رواية: أما الرغبة فقد أوصلها لنا فضلك، وأما الرهبة فقد أمّننا منها عدلك، فتهلل وجه عمر عند ثناء الغلام عليه، وسأل عن سن الغلام فقيل: عشر سنين ثم كأن عمر خاف العجب فأقبل على الغلام وقال: عظنا يرحمك الله: فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغلبن جهل القوم بك معرفتك بنفسك، فأجهل الناس مضن ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس، وإن قومًا خدعهم الثناء، وغرهم الشكر، فزلت أقدامهم فهوُوا في النار، أعاذك الله يا أمير المؤمنين أن تكون منهم، وألحقك بصالح سلَف هذه الأمة، فجعل عمر يبكي حتى خيف عليه.
ودخل الأحنف بن قيس على معاوية فقال له معاوية: ما الشيء الملفف في البجاد؟ قال: السخينة يا أمير المؤمنين، أشار معاوية إلى قول الشاعر يهجو بني تميم بحب الطعام:
إذا ما مات ميت من *** وسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بلحم أو *** أو الشيء الملفف في البجاد
وأصل ذلك أن عمرو بن هند لما حلف ليحرقن من بني تميم مائة في ثأره أخذهم فجعل يلقيهم في النار، حتى بقي له واحد من العدة، فإذا برجل تميمي من البراجم قد ذهب في حاجة فشم روائح المحترقين فقال: هذا شواء اتخذه الملك، فمال إليه، فلما وقف عليه قال له: من أنت؟ قال: برجميّ، فقال الملك: "إن الشقيّ وافد البراجم" وأمر به فقذف في النار تكميلًا للعدد، فمن ذلك عيّرت العرب تميمًا بحب الطعام، وقال الشاعر:
ألا أبلغ لديك بني تميم *** بآية ما يحبون الطعاما
وأشار الأحنف بذكر السخينة، وهي حساء رقيق كانت قريش تتخذه في الشدة ويعيرون به.
ومن هذا المعنى ما وقف رجل من فقعس على الفرزدق فقال له الفرزدق: أين تركت القنان؟ فقال: تركته يسامي أو يقابل لصافًا وهما جبلان معروفان، الأول منهما هو الواقع في قول زهير:
جعلن القنان عن يمين وحزْنَهُ *** ومن بالقنان من محل ومحرم
والثاني هو الواقع في قول:
بمصطحبات من لصاف وثبرة *** يزرن إلالا سيرهن التدافع
وإلال هو جبل عرفة، فعرض الفرزدق بالفقعس مشيرًا إلى قول الشاعر فيهم:
ضمن القنان لفقعس سوآتها *** إن القنان بفقعس
وأشار الفقعسي بذكر لصاف إلى قول الآخر في تميم:
وإذا ترك من تميم خصلة *** فلَمّا يسوءك من تميم أكثر
قد كنت أحسبهم أسودَ خفيّةٍ *** فإذا لصاف تبيض فيه الحمَرُ
والحمر على وزن صرد، وتشدد ميمه وهو اللائق في البيت طائر شبههم به في الضعف والجبن.
وقال بعضهم: كنت عند جسر بغداد فإذا بفتاة حسناء قد مرت، فجاء فتى من الجانب الآخر، فلما رآها قال: يرحم الله علي بن الجهم، فقالت: ويرحم الله أبا العلاء المعري، ثم انطلق كل لحاجته، ولم يقف قال: فتبعت المرأة وقلت لها: لئن لم تخبريني بما جرى بينكما لأفضحنك، فقالت: لا شيء إلاّ أنه أشار إلى قول علي بن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر *** جلبن الخوى من حيث أدري ولا أدري
فأشرت أنا إلى قول المعري:
فيا دارها بالحزن إن مزارها *** قريب ولكن دون ذلك أهوال
وتقدم نحو هذا في قصة المعري وقصة الكسائي.
ومن هذا القبيل في ذكاء العقول ولطافة الأفهام ما يحكى أن المعتمد بن عباد خرج يومًا هو ووزيره أبو بكر بن عمه فمرا بالرحبة فإذا بامرأة بذيّةٍ بين الرجال، فقال المعتمد: "الجيارين" فقال ابن عمار: نعم يا سيدي "والحباسين" فالأول يقول: "الحيا زين" والثاني يقول: "والحنا شين" وصحف كل تعمية على العامة واتكالًا على فهم صاحبه.
وهذا الباب لا يأتي عليه الحصر، وما ورد فيه من الشعر أكثر وأكثر، وقد قيل: أنزلت الحكمة على ألسنة العرب، وما ذلك إلاّ في شعرها، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» وتقدمت جملة من ذلك في الأمثال، وسيأتي شيء منه في الوصايا والمواعظ إن شاء الله.
لله الأمر من قبل ومن بعد.
فمن ذلك ما ورد عن حكماء العرب وبعضه ينسب حديثًا: لا حليم إلاّ ذو عثرة ولا حكيم إلاّ ذو تجربة.
خير المقال ما صدقه الفعال.
رأس الدين، صحة اليقين.
كفر النعمة لؤم،وصحبة الجاهل شؤم.
جانب مودة الحسود، وإن زعم أنه ودود.
إذا جهل عليك الحمق فالبس له سلاح الرفق.
لكل شيء آفة، فآفة العلم النسيان، وآفة العبادة الرياء، وآفة الحياء الضعف، وآفة اللب العُجْب، وآفة الظرف الصلف، وآفة الجود السرف، وآفة الجمال التيه، وآفة السؤدد الكبر، وآفة الحلم الذل.
ويقال أيضًا: آفة الحلم السفه، وآفة الحديث الكذب، وآفة العبادة الفَتْرَةُ، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الدين الهوى، وآفة الحسب الفخر.
والمراد بالصلف هنا مجاوزة الحد تكبرا.
مؤمل النفع من اللئام، كزارع البذر في الحمام.
صحبة الفاسق شين، وصحبة الفاضل زين.
من جرى في ميدان أمله، عثر في عنان أجله.
من لم يصبر على البلاء، لم يرض بالقضاء.
فقد الصبر، أعظم من حوائج الدهر.
إذا حزن الفؤاد، ذهب الرقاد.
الجليس الصالح، كالمسك النافح.
الحسود مغتاظ على من لا ذنب له.
من الآفات، كثرة الالتفات.
من أشد العذاب، فراق الأحباب.
كلب شاكر، خير من صديق غادر.
إذا جاء القدر، عمى البصر.
العيال، سوس المال.
إذا صدق العيان، لم يحتج إلى برهان.
شفاء الصدور، في التسليم للمقدور.
الحق ثقيل، وطالبه قليل.
كثرة العتاب، داعية الاجتناب.
من سعى إليك، سعى عليك.
مدح الغائب تعريض بالحاضر.
من تفرغ للشر يطلبه، أتيح له من يغلبه.
من أمل أحدًا هابه، ومن قصر عن شيء عابه.
رب أخ لم تلده لك أمك.
لا يضر السحابَ، نُباحُ الكلاب.
وفي معناه قول حسان رضي الله عنه:
ما أبالي أنَبَّ بالحَزْن تيس *** أم لحاني بظهر غيبٍ لئيمُ
وقول الآخر:
ما يضر البحر أمسى زاخرًا *** أن رمى فيه غلام يحجر
وقول الآخر:
زعم الفرزدق أن سيقتل مِرْبعًا *** أبشر بطول سلامة يا مِرْبع
وقول الآخر:
تهددني لتقتلني نمير *** متى قتلت نمير من هجاها
وقيل: مما يعين على العدل اصطناع من يؤثر التقى، واطّراح من يقبل الرُّشا، واستكفاء من يعدل في القضية، واستخلاص من يشفق على الرعية، فإنه ما عدل من جار وزيره، ولا صلح من فسد مشيره.
وقيل: آفة الملوك سوء السيرة، وآفة الوزراء خبث السريرة، وآفة الجند مفارقة القادة، وآفة الرعية مفارقة الطاعة، وآفة الزعماء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة، وآفة القضاة شدة الطمع، وآفة الشهود قلة الورع.
وقيل: أربعة لا يزول معها ملك: حفظ الدين، واستكفاء الأمين، وتقديم الحزم، وإمضاء العزم.
وأربعة لا يثبت معها ملك: غش الوزير، وسوء التدبير، وخبث النية، وظلم الرعية.
وأربعة لا تستغني عن أربعة: الرعية عن السياسة، والجيش عن القادة، والرأي عن الاستشارة، والعزم عن الاستخارة.
وأربعة لا بقاء لها: مال يجمع من حرام، وحال تعهد من الأيام، ورأي يعرى من العقل، وملك يخلو من العدل.
وأربعة تولد المحبة: حسن البشر، وبذل البر، وقصد الوفاق، وترك النفاق.
وأربعة من علامات الكرم: بذل الندى، وكف الأذى، وتعجيل المثوبة وتأخير العقوبة.
وأربعة من علامات اللؤم: إفشاء السر، واعتقاد الغدر، وتجنب الأخيار، وإساءة الجوار.
وأربعة من علامات الإيمان: حسن العفاف، والرضى بالكفاف، وحفظ اللسان، ومحبة الإخوان.
وأربعة من علامات النفاق: قلة الديانة، وكثرة الخيانة، وغش الصديق، ونقض المواثيق.
وأربعة تزال بأربعة: النعمة بالكفران، والقوة بالعداون، والدولة بالإغفال، والحظوة بالإدلال.
وأربعة يُترَقّى بها إلى أربعة: العقل الرياسة، والرأي إلى السياسة، والعلم إلى التصدير، والحلم إلى التوقير.
وأربعة تؤدي إلى أربعة: الصمت إلى السلامة، والبر إلى الكرامة، والجود إلى السيادة، والشكر إلى الزيادة.
وأربعة تدل على وفور العقل: حب العلم، وحسن العلم، وصحة الجواب، وكثرة الصواب.
وأربعة تدل على نقصان العقل: الجهل بالأعادي، والأمن للعوادي، والجفوة للإخوان، والجرأة على السلطان.
وأربعة لا تتم إلاّ بأربعة: العلم بالحجا، والدين بالتقى، والعمال بالنيات، والموالاة بإخلاص الطويّات.
وقال حكيم آخر: ثلاث لا يستصلح فسادهن بشيء من الحيلة: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركاكة في العقول.
وثلاث لا يستفاد صلاحهن بنوع من المكر: العبادة من العلماء، والقناعة من المستبصرين، والسخاء في ذوي الأخطار.
وثلاثة لا يشبع منها: الحياة، والعافية، والمال.
وثلاثة لا يستغني عنها السلطان: وزير حسن التدبير، ومستشار نصيح، وصاحب بريد صدوق.
وثلاث هي قوام العالم: عدل الأمراء، وصلاح العلماء، وانقياد الرعية للرؤساء.
ومن مشاهير الحكماء القدماء لقمان الحكيم، وقد ذكره الله تعالى وذكر "بعض" ما قال لابنه، وقال له رجل: ما الذي بلغ بك ما أرى؟ فقال: ما ذاك؟ فقال: وطئ الناس بساطك ورضوا بقولك، فقال: يا أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك، ثم قال: غَضّي بصري، وكفّي لساني، وعفة مطمعي، وحفظ فرجي، وقيامي بعهدي، ووفائي بوعدي، وإكرام ضيفي، وحفظ جاري، وترك ما لا يعنيني هو الذي صيرني كما ترى.
ومن حكيم كلامه لابنه: يا بني. جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله تعالى يحيي القلوب الميتة بالعلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر.
وقوله: من لم يملك لسانه يندم، ومن لم يتق الشتم يشتم، ومن صاحب قرين السوء لم يسلم.
وقال قائل لأكثم بن صيفي حكيم العرب: ما السؤدد؟ قال: اصطناع العشيرة، واحتمال الجريرة، قال: فما الشرف؟ قال: كفّ الأذى، وبذل الندى، قال: فما المجد؛ قال: حمل المغارم، وبناء المكارم، قال: فما الكرم؟ قال: صدق الإخاء، في الشدة والرخاء، قال: فما العز؟ قال: شدة العضد، وكثرة العدد، قال: فما السماحة؟ قال: بذل النائل، وحب السائل، قال: فما الغنى؟ قال: الرضا بما يكفي، وقلة التمني، قال: فما الرأي؟ قال: لُبٌّ تعينه تجربة.
ومن كلامه أيضًا: من وفى بالعهد، فاز بالحمد، ومن اصطنع قومًا، انتفع بهم يومًا، ومن فسدت بطانته كان كمن غصّ بالماء، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن حدث من لا يفقه كان كمن قدم مائدة لأهل القبور، ومن قطع عليك الحديث فلا تحدثه، إذ ليس بصاحب أدب، ومن عرف بالصدق قُبِل كَذِبه، ومن عرف بالكذب لم يُقبل صدقه، ومن غضب بلا شيء رضي بلا شيء، ومن أظهر محاسنه ودفن مساويه كمل عقل، ومن غلب هواه عقله افتضح، ومن استشار عدوه في صديقه أمر بقطيعته، ومن فرح بكذب الناس في الثناء عليه بان لهم حُمقه، ومصادقة الكرام غنيمة، ومصادقة اللئام ندامة، وعِدَةُ الكريم نقْد، وعِدَة اللئيم تسويف.
ومن كلام بزرجمهر الفارسي: نصحني النصحاء، ووعظني الوعاظ، فلم يعظني أحد مثل شيمتي، ولا نصحني مثل فكري، واستضأت بنور الشمس وضوء النهار، فلم أستضيء بشيء أضوأ من نور قلبي، وكنت عبد الأحرار والعبيد، فلم يملكني أحد ولا قهرني مثل هواي، وعاداني العداء فلم أرَ أعدى إلي من نفسي، وزاحمتني المضايق، فلم يزاحمني مثل الخلق السوء، ووقعت في المضار العظيمة، فلم أقع في أضر من لساني، ومشيت على الجمر ووطئت على الرمضاء، فلم أرَ نارًا أحر من غضبي إذا تمكن مني، وطلبني الطلاب فلم يدركني مثل إساءتي، وفكرت في الداء القاتل ومن أين يأتيني فوجدته من معصية ربي، والتمست الراحة لنفسي فلم أجد شيئًا أروح لها من ترك ما لا يعنيها، وركبت البحر، وعاينت الأهوال، فلم أرَ هولًا أعظم من الوقوف بين يدي سلطان جائر، وتوحشت في البراري والجبال، فلم أرَ أوحش من قرين السوء، وعالجت السباع فغلبتها، وغلبني صاحب الخلق السوء، وأكلت الطيّب، وشربت المسْكر، وعانقت الحسان، وركبت الجياد، فلم أجد شيئًا ألذ من العافية والأمن، وأكلت الصَّبر وشربت المر، فلم أرَ شيئًا أمرّ من الفقر، وشاهدت الزحوف، وعاينت الحتوف، وضارعت الأقران، فلم أرَ أغلب من المرأة السوء، وعالجت الأثقال، ونقلت الصخر، فلم أرَ حِمْلًا أثقل من الدَّين، ونظرت فيما يذل العزيز، ويسكر القوي، ويضع الشريف، فلم أرَ أذل من ذي فاقة وذي حاجة، ورشقت بالنشاب وشددت في الوثاق، وضربت بعمد الحديد، فلم يهدمني مثل ما هدمني الهم والحزن، واصطنعت الأخدان وانتخبت الأقوام للعدة والشدة والنائبة، فلم أرَ شيئًا خيرًا من التكرم عندهم، وطلبت الغنى من وجوهه، فلم أرَ غنىً أغنى من القناعة، وتصدقت بالذخائر، فلم أرَ أنفع من رد ضال إلى الهدى، ورأيت الذل في الغربة والوحدة، فلم أرَ أذل من مقاساة جار السوء، وشيدت البنيان لأعتز به وأُذكر فلم أرَ شرفًا أرفع من اصطناع المعروف، ولبست الملابس الفاخرة، فلم ألبس مثل الصلاح، وطلبت أحسن الأشياء عند الناس فلم أجد شيئًا أحسن من حسن الخلق، وسررت بعطايا الملوك وجوائزهم، فلم أسر بشيء أعظم من الخلاص منهم.
ولما قتله كسرى أنوشروان لرغبته عن دين المجوسية وانتقاله إلى دين عيسى عليه السلام وجدوا في منطقته رقعة فيها ثلاث كلمات وهي: إذا كان القدر حقًا فالحرص باطل، وإذا كان الغدر في الناس طبيعة فالثقة بكل أحد عجز، وإذا كان الموت بكل الناس نازلًا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق.
ويقال: إن المهلب لما توسم النجابة في ابنه يزيد وهو صغير أراد أن يختبره، فقال له: يا بني ما أشد البلاء؟ قال: يا أبت معاداة العقلاء، ثم قال: اقلني قال: قد أقلتك فقل: فقال: أشد البلاء تأمير اللؤماء على الكرماء. ثم قال: أقلني قال: قد أقلتك فقل: فقال: أشد البلاء معاداة العقلاء ومسألة البخلاء وتأمر اللؤماء على الكرماء، فقال المهلب: والله يا بني ما يسرني بقولك مقول لقمان، ولا يعدل عندي بقاءك ملك سليمان.
وكان زياد وهو من ذوي السياسة يقول: أوصيكم بثلاثة: العالم والشيخ والشريف، فوالله لا أوتي بوضيع سب شريفًا، أو شاب وثب بشيخ، أو جاهل امتهن عالمًا، إلاّ عاقبت وبالغت.
وفي الأجوبة: أمر عليه الصلاة والسلام أن تضرب عنق عقبة بن أبي معيط فقال: من للصبية يا محمد؟ قال: النار.
وقال الصديق رضي الله عنه لرجل قال له: لأشتمنك شتمًا يدخل معك في قبرك: معك والله يدخل لا معي.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لعامر بن عبد القيس العنبري ورآه أعرابيًا: يا أعرابي أين ربك؟ قال: بالمرصاد.
وقال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فقال علي: أين سؤال عن المكان وكان الله ولا مكان.
وكان الأعمش يقول: احذروا الجواب، فإن عمروا بن العاصي قال لعدي بن حاتم: متى فقئت عينك يا أبا طريف؟ فقال: يوم طعنت في أستك وأنت مُوَلٍّ يعني يوم صفّين.
ودخل معن بن زائدة على المنصور فقال: كبر سنك يا معن فقال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: وإنك مع ذلك لجلد، قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لبقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين.
وقال معاوية لابن عباس رضي الله عنهم، وقد كف بصره: أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم، فقال: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم.
وقال ابن "أبي" الزناد لابن شبرم في مناظرة: من عندنا خرج العلم، فقال ابن شبرمة: نعم ثم لم يعد إليكم.
وقال عمر بن الخطاب لأبي مريم السلولي: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم قال: أفتمنعني حقًا؟ قال: لا، قال: فلا بأس، إنما يأسف على الحب النساء.
وقال الحجاج لرجل من الخوارج: إني لأبغضكم فقال الخارجيّ: أدخل الله أشدنا بغضًا لصاحبه الجنة.
وقال رجل لعمرو بن العاصي: لأتفرغن لك، فقال: حينئذ تقع في الشغل.
وقال عبد الملك بن مروان لبثينة صاحبة جميل: ما رجا منك جميل حين أحلك؟ فقالت له: ما رجت منك الأمة حين ملكتك أمرَها.
وقال لثابت بن عبد الله: زعم عبد الله بن هلال أنك أشبه الناس بإبليس، قال: صدق، ما ينكر أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن؟ وقال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين قالوا {ربنا باعد بين أسفارنا} وكان اجتماع الشمل خيرًا لهم، فقال اليماني: يا أمير المؤمنين: قومك أحمق حين قالوا: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} ولم يقولوا: فاهدنا له.
وقال الرشيد لشريك القاضي: يا شريك آية في كتاب والله ليس لك ولا لقومك فيها شيء قوله تعالى: {وإنَّهُ لذكر لَكَ ولقومك} فقال: يا أمير المؤمنين وآية أخرى ليس لي ولا لقومي فيها شيء قوله تعالى: {وكّذَّب بهِ قَوْمكَ وَهُوَ الحَقّ}".
وقدم على عمر بن عبد العزيز فتيان فقالوا: توفي أبونا وترك مالًا عند عمنا حُمَيْد، فأمر بإحضاره وقال له: أنت القائل؟:
حُمَيْدُ الذي أمَجٌ دارُه *** أخو الخمر ذو الشيبة الأصلعُ
أتاه المشيب على شربها *** وكان كريمًا فما يَنْزِعُ
قال: نعم، قال: أما إذ أقررت فسأجدُّك قال: هيهات، ألم تسمع قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتْبَعَهُمْ الغَاوُونَ ألَمْ تَرَ أنَّهُمْ في كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} قال: أفلت ثم قال: يا حميد، لقد كان أبوك رجلًا صالحًا وأنت رجل سوء، قال: هؤلاء يزعمون أن أباهم توفي وترك عندك مالًا، قال: نعم، وأنا أنفق عليهم من مالي ثم أحضر المال بخواتيم أبيهم، فقال عمر: ما أحدٌ أحق أن يكون عنده منك، قال: لا يعود إليَّ بعد أن خرج مني، وأمج بفتحتين موضع.
ويروى عن الأصمعي أنه قال: أتى شهر رمضان وأنا بمكة، فخرجت إلى الطائف لأصوم به فرارًا من حر مكة، فلقيني أعرابي فقلت له: أين تريد؟ قال: أريد هذا البلد المبارك "لأصوم فيه هذا الشهر المبارك" فقلت له: أما تخاف الحر؟ قال: من الحر أفِرّ.
ونحو هذا ما يحكى عن الربيع بن خثيم رضي الله عنه وقد صلى ليلة حتى أصبح. فقال له رجل: أتعبت نفسك فقال: راحتها أطلب.
ونحوه قول عروة بن الورد:
تقول سليمى: لو أقمت بأرضنا *** لم تدرِ أني للمقام أُطَوِّف
وقول الآخر:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا *** وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
وقول أبي تمام:
أألفة النحيب كم افتراقٍ *** أجدَّ فكان داعية اجتماع
وليست فرحة الأوبات إلاّ *** لموقوفٍ على ترَح الوداع
وقال مسلمة بن عبد الملك يومًا لنصيب الشاعر: أمدحت فلانًا لرجل من أهله؟ قال: قد فعلت، قال: أوحرمك؟ قال: قد فعل، قال: فهلاّ هجوته؟ قال: لم أفعل لأني أحق بالهجاء منه إذْ رأيته موضعًا لمدحي، فأعجب ذلك مسلمة فقال له: سلني، قال: لا أفعل، قال: ولم؟ قال: لأن كفك بالعطية أجود من لساني بالمسألة، فوهب له ألف دينار.
ولما فتح قتيبة بن مسلم سمَرْقَنْد ظفر بأثاث وآلات لم يرَ مثلها، وأراد أن يُري الناس عظيم ما ظفر، فأمر بدار ففرشت وفيها قدور تُرْتقى بالسلالم، فإذا بالحضين بن المنذر الرَّقاشي قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم، والحصين شيخ كبير، فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لقتيبة: ائذن لي في معابثته، فقال له: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلاّ أن يعابثه، وكان عبد الله يضعَّفُ، وكان قد تسوَّر حائطًا إلى امرأة قبل ذلك، فأقبل على الحضين فقال له: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان، قال: أجل، أسنَّ عمك عن تسوُّر الحيطان. قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظمُ مِن أن لا تُرى، قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قطُّ، قال: أجل، ولا عيلان، ولو كان رآها لسمي شَبْعان ولم يُسَمَّ عَيْلان. فقال عبد الله: يا أبا ساسان أتعرف الذي يقول:
عزَلْنا وأمَّرْنا وبكر بنُ وائل *** تجُرّ خُصاها تيتغي من تُحالف
قال: أعرف هذا وأعرف الذي يقول:
وخيبة من يخيب على غّنيٍّ *** وباهلة بن أعصر والركاب يريد يا خيبة من يخيب. قال: أفتعرف الذي يقول:
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع *** إذا عرقت أفواه بكر بن وائل
قال أعرف هذا وأعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أمهم وأبوهم *** لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
وقبل هذا البيت:
إن كنت ترجو ان تنال رغيبة *** في دار باهلة بن أعصر فارحل
قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيء؟ فقال: أقرأ منه الأكثر الأطيب: {هَلْ أتَى عَلى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} فأغضبه فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره، فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى ثم قال على رِسْلِهِ: وما يكون؟ تلد غلامًا على فراشي فيقال: بن الحضين كما يقال: عبد الله بن مسلم.
ودخل المعتصم على خاقان يعوده في مرض، فقال للفتح ابنه وهو صبي: أيما أحسن داري أم داركم؟ فقال: يا أمير المؤمنين أما ما دمتَ في دارنا فهي أحسن، ويروى أنه قال له: الدار التي أنتَ فيها أحسن يعني دارهم.
وقيل لرجل من الجند: أراك تكره الخروج إلى العدو، فقال: إني لأكره أن يأتيني الموت في بيتي، فكيف أسافر إليه؟ ولما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد بقيت أخته آمنة عند الوليد، فلما هلك عبد الملك سعى بها ساع إلى الوليد وأنها لم تبك على عبد الملك كما بكت نظائرها، فذكر لها الوليد ذلك فقالت: صدق القائل إن كنت قائلة ماذا أقول؟ يا ليته بقي حتى يقتل لي أخًا آخر كعمرو بن سعيد.
ويلتحق بهذا الباب ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على القبائل خرج وأنا معه وأبو بكر معنا، فأتينا مجلسًا فقلنا: من القوم؟ فقالوا: من ربيعة، فقال: أبو بكر: من هامتها أم لهازِمِها؟ فقالوا: من هامتها العظمى، فقال: وأيّ هامتها العظمى؟ قالوا: ذُهْل الأكبر، قال: فمنكم عوف الذي كان يقال فيه: "لا حُرَّ وِوَادِي عَوْف" قالوا: لا، قال: فمنكم بسطام منتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة؟ قالوا: لا، قال: فمنكم حسان بن ربيعة حامي الذمار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحَوْفَزان قاتل الملوك؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أصهار الملوك من لحم؟ قالوا: لا، قال: لستم ذُهْل الأكبر، أنتم ذُهْل الأصغر، فقام إليه أعرابي منهم وقال:
إنَّ على سائلنا أن نسأله *** والعِبءُ لا تعرفه أو تحمِله
يا هذا سألتنا فلم نكتمك، فمن أنت؟ قال: من قريش، قال: بخ بخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من تيم ابن مرة، قال: أمكنت الرامي من ثغرتك، فمنكم قصي الذي جمع الله به القبائل من فهر؟ قال: لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه؟ قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد مطعم الطير؟ قال: لا، قال: فلكم الإفاضة؟ قال: لا، قال: فلكم الندوة؟ قال: لا، قال: فلكم الحجابة؟ قال: لا، قال: فلكم السّقاية؟ قال: لا، ثم اجتذب أبو بكر زمام طاقته وانصرف عنه، فقال له: أيم الله، لو تلبثت لأخبرتك أنك من زمعات قريش أو ما أنا بدغفل فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال علي: فقلت: يا أبا بكر حصلت من الأعرابي على باقعة، قال: أجل إن فوق كل طامة طامة، والبلاء موكل بالمنطق.
وكان عتبة بن أبي سفيان عاملًا على المدينة فولى رجلًا من أهله على الطائف، ثم إنه ظلم رجلًا من الأزد وأخذ له غنمًا، فجاء إلى المدينة مشتكيًا ودخل على عتبة فأنشأ يقول:
أمرت من كان مظلومًا ليأتيكم *** فقد أتاك غريب الدار مظلوم
وذكر ما فعل به العامل وأكثر، فقال له عتبة: إنك أعرابيّ جاف، والله ما أحسبك تعرف كم تصلي في كل يوم وليلة، فقال الأعرابيّ: أرأيتك إن أنبأتك عن ذلك أن تجعل لي أن أسألك عن مسألة؟ قال: نعم، فقال الأعرابي:
إن الصلاة أربع وأربع ***
ثم ثلاث بعدهن أربع ***
ثم صلاة الفجر لا تضيع ***
قال صدقت فسل، فقال: كم فقار ظهرك قال: لا ادري، قال: فتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك، فقال عتبة: ردوا عليه غنيمته.
ولما ظهر المهلب بن أبي صفرة على الخوارج أرسل كعب "قال عنه الأصفهاني في "أغانيه" "14: 284": "كعب بن معدان الأشقري، والأشاقر قبيلة من الأزد، شاعر، فارس، خطيب، معدود في الشجعان، من أصحاب المهلب والمذكورين في حروب الأزارقة"" ابن مَعْدان الأشقري ومرة بن تليد الأزدي إلى الحجاج ليعلماه بالفتح فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشد:
يا حفص إني عداني عنكم السفر *** وقد سهرت فأرْدى نوميَ السهر
فقال له الحجاج: أشاعر أم خطيب؟ فقال: كلاهما، ثم أنشده القصيدة، ثم أقبل عليه فقال: خبرني عن "بني" المهلب فقال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى بيزيد فارسًا شجاعًا، وجوادهم وسحبهم قبيصة، ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدرك، وعبد الملك سم ناقع وحبيب موت ذعاف، ومحمد ليث غاب، وكفى بالفضل نجدة، قال: فكيف خلفت جماعة الناس؟ قال: قد خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حماة للسرح نهارًا، فإذا أليلوا ففرسان للبيات، قال: فأيهم كان انجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم؟ قال: كنا إذا أخذنا عفونا "واخذوا عفوهم يئسنا منهم"، وإذا اجتهدوا واجتهدنا طمعنا فيهم، فقال الحجاج: {إنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} كيف أفلتكم قطري؟ قال: كادنا ببعض ما كنا نكيده، قال: فهلا اتبعتموه؟ قال: كان الحد عندنا آثر من الفل، قال: كيف كان لكم المهلب وكنتم له؟ قال: كان لنا منه شفقة الوالد، وله منا بر الولد، قال: فكيف اغتباط الناس؟ قال: فشا فيهم الأمن، وشملهم النقل قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب؟ قال: لا يعلم الغيب إلاّ الله، قال: هكذا والله يكون الرجال، المهلب كان أعلم بك حين وجهك.
وفي "نوادر القالي" أن الحجاج قال له: كيف كان محاربة المهلب للقوم؟ قال: كان إذا وجد الفرصة سار كما يسور الليث، وإذا دَهِمَتْه الطحمة راغ كما يروغ الثعلب، وإذا مادَّه القوم صبر صبر الدهر، وانه قال له: كيف أفلتكم قطريّ؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه به، والأجل أحصن جنة، وأنفذ عُدة، قال: وكيف اتبعتم عبد ربه وتركتموه؟ قال: آثرنا الحد على الفل، وكانت سلامة الجند أحب إلينا من شجب العدو.
ولما مات سعيد بن العاصي قال معاوية لابنه عمرو بن سعيد وهو صبي صغير: إلى من أوصى بك أبوك يا غلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن أبي أوصاني ولم يوص بي.
وقال معاوية لابنه يزيد وهو ابن تسع سنين: في أي سورة أنت يا بني؟ وكان في سورة القتال، فكره أن يذكرها فقال: أنا في السورة التي تلي: {إنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا} يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: هذه السورة تليها سورتان، وهي بينهما، ففي أيتهما أنت؟ قال: في السورة التي فيها: {وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلى مُحَمّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّآتِهِمْ وَأصْلَحَ بَالَهُمْ} فتمثل معاوية حينئذ بقول الشاعر:
ملوك وأبناءُ الملوك وسادة *** تفلق عنها بيضة الطائر الصقر
متى تلق منهم ناشئًا في شبابه *** تجده على آثار والده يجري
ولما أصاب أهل البوادي القحط أيام هشام بن عبد الملك وفدت عليه رؤساء القبائل وفيهم صبي صغير في رأسه ذؤابة، وعليه بردة يمنية فأنكر هشام حضوره وقال للحاجب: ما يشاء أحد أن يصل إلينا إلاّ وصل حتى الصبيان، فقال الصبي: يا أمير المؤمنين إن دخولي لم ينقصك، ولكن شرفني، وإن هؤلاء قدموا لأمر فهابوك دونه، وإن الكلام نشر والسكوت طي لا يعرف إلاّ بنشره، فأعجب هشامًا كلامه "فقال له:" انشر لا أم لك فقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون ثلاث، فسنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم، وفي يدكم نصول أموال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين، فقال هشام: ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذرًا، وأمر بمائة ألف درهم "ففرقت في البادية وأمر للغلام بمائة ألف درهم" فقال: ارددها في جائزة العرب، فما لي بها حاجة في خاصة نفسي دون سائر المسلمين، فكان في هذه أعجب.
ولما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه جاءته الوفود، فحين دخل عليه وفد أهل الحجاز أراد غلام منهم أن يتكلم فقال له عمر: يا غلام، يتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لسانًا لافظًا، وقلبًا حافظًا، فقد أجاد "له" الاختيار، ولو أن الأمور بالسن لكان هنا من هو أحق بمجلسك منك، فقال له: صدقت فتكلم، فهذا هو السحر الحلال، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفدُ التهنئة، لا وفد المرزئة، لم تقْدِمْنا إليك رغبةٌ ولا رهبةٌ، لأنا قد أمِنّا في أيامك ما خفناه، وأدركنا ما طلبناه، وفي رواية: أما الرغبة فقد أوصلها لنا فضلك، وأما الرهبة فقد أمّننا منها عدلك، فتهلل وجه عمر عند ثناء الغلام عليه، وسأل عن سن الغلام فقيل: عشر سنين ثم كأن عمر خاف العجب فأقبل على الغلام وقال: عظنا يرحمك الله: فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغلبن جهل القوم بك معرفتك بنفسك، فأجهل الناس مضن ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس، وإن قومًا خدعهم الثناء، وغرهم الشكر، فزلت أقدامهم فهوُوا في النار، أعاذك الله يا أمير المؤمنين أن تكون منهم، وألحقك بصالح سلَف هذه الأمة، فجعل عمر يبكي حتى خيف عليه.
ودخل الأحنف بن قيس على معاوية فقال له معاوية: ما الشيء الملفف في البجاد؟ قال: السخينة يا أمير المؤمنين، أشار معاوية إلى قول الشاعر يهجو بني تميم بحب الطعام:
إذا ما مات ميت من *** وسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بلحم أو *** أو الشيء الملفف في البجاد
وأصل ذلك أن عمرو بن هند لما حلف ليحرقن من بني تميم مائة في ثأره أخذهم فجعل يلقيهم في النار، حتى بقي له واحد من العدة، فإذا برجل تميمي من البراجم قد ذهب في حاجة فشم روائح المحترقين فقال: هذا شواء اتخذه الملك، فمال إليه، فلما وقف عليه قال له: من أنت؟ قال: برجميّ، فقال الملك: "إن الشقيّ وافد البراجم" وأمر به فقذف في النار تكميلًا للعدد، فمن ذلك عيّرت العرب تميمًا بحب الطعام، وقال الشاعر:
ألا أبلغ لديك بني تميم *** بآية ما يحبون الطعاما
وأشار الأحنف بذكر السخينة، وهي حساء رقيق كانت قريش تتخذه في الشدة ويعيرون به.
ومن هذا المعنى ما وقف رجل من فقعس على الفرزدق فقال له الفرزدق: أين تركت القنان؟ فقال: تركته يسامي أو يقابل لصافًا وهما جبلان معروفان، الأول منهما هو الواقع في قول زهير:
جعلن القنان عن يمين وحزْنَهُ *** ومن بالقنان من محل ومحرم
والثاني هو الواقع في قول:
بمصطحبات من لصاف وثبرة *** يزرن إلالا سيرهن التدافع
وإلال هو جبل عرفة، فعرض الفرزدق بالفقعس مشيرًا إلى قول الشاعر فيهم:
ضمن القنان لفقعس سوآتها *** إن القنان بفقعس
وأشار الفقعسي بذكر لصاف إلى قول الآخر في تميم:
وإذا ترك من تميم خصلة *** فلَمّا يسوءك من تميم أكثر
قد كنت أحسبهم أسودَ خفيّةٍ *** فإذا لصاف تبيض فيه الحمَرُ
والحمر على وزن صرد، وتشدد ميمه وهو اللائق في البيت طائر شبههم به في الضعف والجبن.
وقال بعضهم: كنت عند جسر بغداد فإذا بفتاة حسناء قد مرت، فجاء فتى من الجانب الآخر، فلما رآها قال: يرحم الله علي بن الجهم، فقالت: ويرحم الله أبا العلاء المعري، ثم انطلق كل لحاجته، ولم يقف قال: فتبعت المرأة وقلت لها: لئن لم تخبريني بما جرى بينكما لأفضحنك، فقالت: لا شيء إلاّ أنه أشار إلى قول علي بن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر *** جلبن الخوى من حيث أدري ولا أدري
فأشرت أنا إلى قول المعري:
فيا دارها بالحزن إن مزارها *** قريب ولكن دون ذلك أهوال
وتقدم نحو هذا في قصة المعري وقصة الكسائي.
ومن هذا القبيل في ذكاء العقول ولطافة الأفهام ما يحكى أن المعتمد بن عباد خرج يومًا هو ووزيره أبو بكر بن عمه فمرا بالرحبة فإذا بامرأة بذيّةٍ بين الرجال، فقال المعتمد: "الجيارين" فقال ابن عمار: نعم يا سيدي "والحباسين" فالأول يقول: "الحيا زين" والثاني يقول: "والحنا شين" وصحف كل تعمية على العامة واتكالًا على فهم صاحبه.
وهذا الباب لا يأتي عليه الحصر، وما ورد فيه من الشعر أكثر وأكثر، وقد قيل: أنزلت الحكمة على ألسنة العرب، وما ذلك إلاّ في شعرها، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» وتقدمت جملة من ذلك في الأمثال، وسيأتي شيء منه في الوصايا والمواعظ إن شاء الله.
لله الأمر من قبل ومن بعد.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى